كان المفترض أن تُبادر أحزاب وتنظيمات الإسلام السياسي، بمجرد انهيار الاتحاد السوفييتي، إلى مراجعة شعارات ومواقف وأدبيات هذه المرحلة، حيث كانت هذه القوى والتنظيمات تتحالف مع الولايات المتحدة والغرب الرأسمالي – الاستعماري ضد حركة التحرر العربية والمد اليساري و«الشيوعية العالمية»، وكان المفترض أن تخرج من قُمقُم الماضي لتستنشق هواءً نقياً وتفعل ما فعلته الحركة الإسلامية التركية التي قطعت مسافة أكثر من ثمانين عاماً.استُقبل وصول الإسلامي المعتدل، عبدالله غول، إلى موقع رئاسة الجمهورية التركية، الذي لم يصل إليه منذ قيام هذه الجمهورية على أنقاض السلطنة العثمانية (الخلافة) إلا علمانيٌّ – أتاتوركيٌّ، بالارتياح على الصعيدين العربي والإسلامي، اللهم باستثناء بعض الأحزاب، التي تعتبر نفسها أحزاباً إسلامية، والتي شعرت بأكثر من الإحراج لأنها بقيت «متخشِّبة» ولم تستطع التلاؤم مع متطلبات العصر، كما فعل حزب «العدالة والتنمية» بزعامة هذا الشاب المبدع رجب طيب أردوغان.
لم تشعر تنظيمات وأحزاب الإسلام السياسي العربي بالارتياح إزاء التطورات التي تلاحقت في تركيا في السنوات الأخيرة، وأوصلت حزب «العدالة والتنمية» إلى الحكم، ووضعت عبدالله غول في موقع رئاسة الجمهورية، فهذا أصابها بالحرج والارتباك ودفعها، بدل أن تقف وقفة مراجعة، إلى اتهام الإسلاميين الأتراك بالعمالة للولايات المتحدة ولـ «الاستكبار العالمي» وبالتخلي عن مبادئهم وثوابتهم... والعياذ بالله... العياذ بالله!!
كان يجب أن تستقبل أحزاب وتنظيمات الإسلام السياسي العربية ما جرى في تركيا بالارتياح والاحتضان، وكان يجب أن تـُخْضِعَ هذه التجربة التاريخية للدراسة العميقة وأن تستفيد من إيجابياتها وتبتعد عن سلبياتها، لكنها لم تفعل ذلك لأنها كانت أغلقت أذهانها على أدبيات أيام الحرب الباردة، ولأنها بقيت تقف عند تلك اللحظة التاريخية وكأن صراع المعسكرات لم ينته والاتحاد السوفييتي لم يختف، وكأن العالم لم يعد يقف على قدم واحدة هي قدم الولايات المتحدة الأميركية... القوة الأعظم في الكون كله.
نعم «الإسلام هو الحل»، ولكن كيف وعلى أي أساس ووفقاً لأي برنامج...؟!
بقيت تنظيمات وأحزاب الإسلام السياسي العربية ترفع هذا الشعار الذي كانت رفعته الحركة الأم، جماعة الإخوان المسلمين المصرية، في ظروف غير هذه الظروف وعلى أساس أوضاع غير هذه الأوضاع... والمؤسف حقاً أن شعار «الإسلام هو الحل» بقي شعاراً عاماً ولم يُترجم إلى برامج قابلة للتنفيذ وبقي لا يستخدم إلا لدغدغة عواطف البسطاء والطيبين لكسب أصواتهم وتأييدهم في الانتخابات البرلمانية وأي انتخابات أخرى... حتى انتخابات الجمعيات الطلابية.
كان المفترض أن تبادر أحزاب وتنظيمات الإسلام السياسي بمجرد انهيار الاتحاد السوفييتي وتَوقُّفِ الحرب الباردة وصراع المعسكرات إلى مراجعة شعارات ومواقف وأدبيات هذه المرحلة، حيث كانت هذه القوى والتنظيمات تتحالف مع الولايات المتحدة والغرب الرأسمالي – الاستعماري ضد حركة التحرر العربية والمد اليساري و«الشيوعية العالمية»، وكان المفترض أن تخرج من قمقم الماضي لتستنشق هواءً نقياً ولتفعل ما فعلته الحركة الإسلامية التركية التي قطعت مسافة أكثر من ثمانين عاماً، منذ العام 1923، خطوة خطوة واستطاعت السير والتنقل بين الألغام إلى أن وصلت إلى ما وصلت إليه وأوصلت أحد أهم رموزها عبدالله غول إلى موقع رئاسة الجمهورية الذي كان بحراسة جنرالات الجيش حكراً على غلاة العلمانيين – الأتاتوركيين!!
لو أن الإخوان المسلمين في مصر كانوا بفطنة واتساع أفق الحركة الإسلامية، التي تعود جذورها إلى العام 1923، حيث كان لها ممثلون حتى في الجمعية الوطنية التي شكلها مصطفى كمال (أتاتورك) بعد إلغاء السلطنة العثمانية (الخلافة الإسلامية)، فلما شكلوا خـلايا مسلحة «النظام» ولما لجأوا إلى الاغتيالات ولما واجهوا جمال عبدالناصر بالعنف وحاولوا اغتياله ولما اكتفوا بشعار «الإسلام هو الحل» الذي هو جميل بالفعل، لكنه يحتاج الى ترجمة برامجية... ولما حملوا السلم بالعرض وأشغلوا مصر في كل العهود والمراحل بمعارك جانبية لا تزال متواصلة.
لا يوجد، لا عربي ولا إسلامي، أغنى من تجربة الحركة الإسلامية التركية، فهي بقيت تنحني للعواصف العاتية حتى عندما ألغى مصطفى كمال (أتاتورك) الآذان باللغة العربية في مساجد تركيا، والذي لم يعد إلا في العام 1957،... وكان مــن الممكن أن يرفع الإسلاميون الأتراك شعار «الإسلام هوالحل»... ويضعوا كل المبررات في أيدي جنرالات الجيش، حــراس العلمانية، ليبطشوا بهم ولتأكلهم الانقلابات العسكرية المتلاحقة،في الأعوام 1960 و1971 و1980، ولتخسر تركيا ويخسر الشعب التركي هذه الخطوة الديموقراطية التحديثية العظيمة.
*كاتب وسياسي أردني