المجتمع العربي حتى الآن لا يستطيع أن يفرّق بين الاعتراف بشرعية الآخرين والإقرار بسلامة معتقداتهم وصحتها، ولذلك تعاني الطوائف الدينية الأخرى -سماوية أو وضعية- هضماً في حقوقها، فلماذا لا نحسن توظيف الاختلاف وإدارته إلا وفق المعادلة العنصرية؟!ورغم ما قيل ولايزال يقال عن أن الاختلاف الفقهي رحمة وسعة - وهو حقاً كذلك - فإن الوقائع التاريخية لا تشهد له، فقد كان تعصب كل واحد لفرقته يزداد مع الأيام وتحزبه لرأيه ومذهبه يقوى بسبب النزاعات، ورغم أن الحديث النبوي شجع على الاجتهاد وأثاب عليه - صواباً أو خطأ - والاجتهاد قرين الاختلاف، إلا أن الواقع العملي جعل كل فريق يستبعد من خالفه في الرأي ويرفضه، بل يرمـــيه في دائرة المغايرة وهي تتفاوت، فقد تكون كفراً وزندقة أو جحوداً وشركاً أو بدعة وضلالة أو نفاقاً وفسقاً كما يقول علي حرب، ولذلك يشكل عدم التسامح مع حق الاختلاف، المساحة الأعظم في تاريخنا سواء في المجال السياسي والذي كان من نتائجه مقتل الإمام الحسين رضي الله عنه واستباحة المدينة وضرب الكعبة بالمنجنيق وصلب ابن الزبير والتنكيل بأهل البيت، ونبش قبور الأمويين واضطهاد الإمام مالك عندما أفتى بعدم لزوم بيعة المكره وكذلك الإمام أبو حنيفة والإمام الشافعي والإمام أحمد وقتل ابن جبير... إلخ.
عدم الإقرار بشرعية الاختلاف في المجال العقدي هو الذي جعل المعتزلة يسْتعْدُون السلطة لفرض قناعاتهم في مسألة «خلق القرآن» على الناس لدرجة اضطهاد الإمام أحمد.
عدم ا لإيمان بثقافة الاختلاف في المجال المذهبي هو الذي جعل بعض المتعصبين من الشافعية يقول عن حكم طعام وقعت فيه قطرة نبيذ: يُرمى لكلب أو حنفي، استناداً إلى ما قيل عن أن الأحناف يبيحون النبيذ، وسئل متعصب حنفي: هل يجوز للحنفي أن يتزوج امرأة شافعية؟ فقال: لا يجوز لأنه يشك في إيمانها بينما قال آخر: إنه يجوز قياساً على الكتابية!! وهو الذي جعل بعض متعصبي الحنابلة يرمون بيت الفقيه ابن جرير الطبري ويسدون بابه بالحجارة.
عدم القناعة بحق الاختلاف الديني هو الذي دفع الفقيه ابن القيم الى تأليف كتابه الضخم عن «أهل الذمة» ليقرر فيه أحكاما تمييزية ضدهم من غير سند صحيح.
عدم التسامح في شرعية الاختلاف الطائفي هو الذي جعل السلطة السياسية تمارس النبذ والتهميش والعزل والتشويه بل القهر والسحق تجاه الطوائف الدينية الأخرى على مر التاريخ الإسلامي.
بطبيعة الحال هناك لحظات تاريخية تجسدت فيها حالات ونماذج لشرعية الاختلاف وهناك مأثورات عظيمة مثل ما نقل عن الإمام الشافعي «رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب» ومثله عن الإمام أبي حنيفه ولكن تلك النماذج والمأثورات لا تشكل إلا ومضات مضيئة في سماء، ولعل أول من صادر حق الاختلاف «الخوارج» حينما لجؤوا إلى السيف أسلوباً لحسم الاختلاف السياسي واستمر ذلك على توالي عصور الخلافة الإسلامية إلى يومنا هذا، ونرى امتداداته متمثلة في نماذج عديدة في عصرنا، منها: الانقلاب الدموي لـ«حماس» على السلطة لحسم خلافها السياسي مع «فتح».
واعتصام «حزب الله» بمربعاته الأمنية واستقوائه بسلاح المقاومة واحتكاره للوطنية وكثرة اتهامه للأكثرية بالتخوين والعمالة!! ما ضرّ «حماس» و «حزب الله» لو تسامحتا مع الرأي الآخر أسلوباً آخر للمقاومة وإدارة الصراع؟! وقس على ذلك ما يحصل في العراق والسودان ودارفور والصومال وأفغانستان وباكستان تجد أن الفرقاء إما أنهم لا يتسامحون مع حق الاختلاف أو أنهم لا يحسنون إدارة هذا الاختلاف بما يحقق المصالح المشتركة، ويجنّب الأوطان الخسائر البشرية والمادية. انظر كيف تحسن إسرائيل إدارة الصراع السياسي والديني في مجتمعها لمصلحة قوتها ووحدتها. لماذا لا نحسن توظيف الاختلاف وإدارته إلا وفق المعادلة العنصرية؟!
المجتمع العربي حتى الآن لا يستطيع أن يفرّق بين الاعتراف بشرعية الآخرين والإقرار بسلامة معتقداتهم وصحتها ولذلك تعاني الطوائف الدينية الأخرى -سماوية أو وضعية - هضماً في حقوقها، ونموذج ذلك ما عاناه البهائيون في مصر مدة طويلة في إجبارهم على تدوين كلمة «الإسلام» في خان الديانة لاستخراج البطاقة الشخصية بحجة أن الأزهر وجميع علماء الدين في سائر الأديان لا يقرون بالبهائية كديانة!!
حتى سمح لهم القضاء الإداري بتدوين كلمة «أخرى» في خانة الديانة. والسؤال لهؤلاء من الذي قال إن السماح للبهائيين بكتابة ديانتهم يعني الإقرار بصحتها كديانة؟! شرعية بوجود الآخر والاعتراف بمعتقده وحقوقه لا يلزم إطلاقا الإقرار بصحة معتقدهم.
القضيتان منفصلتان تماماً، لقد تسامح المسملون مع «المجوس» و«الزرادشت» و«الصابئة» وشملوهم بالحماية والرعاية ولم يكن ذلك نابعاً من الاقتناع بصحة معتقداتهم.
* كاتب قطري