Ad

بعد وفاة واختفاء القرش وعائلته «نصف القرش وربعه والمليم» لم يبق سوى الجنيه بتاريخه الأسطوري والعريق، فقد كانت له حتى منتصف السبعينيات «شنّة ورنّة» كما يقول الناس في القرى المصرية يستطيع بها إزالة ولحلحة الحوائط والسدود والعوائق، لذلك منحه الناس اسماً مدهشاً ودالاً هو «اللّحْلوح».

«القرش الأبيض ينفع في اليوم الأسود» كانوا وما زالوا يقولون في القرى والأحياء الشعبية رغم وفاة القرش واختفائه منذ أعوام، والقرش الأبيض المقصود كان في واقع الأمر نصف قرش أي خمسة مليمات أما القرش الكامل والعظيم فقد كان أكبر حجماً وأجل شأناً ويحظى برتبة عسكرية جليلة هي رتبة الصاغ تكريماً له وتقديراً لطاقاته التي ظل المطربون الشعبيون يشيدون بها في المواويل والسير والأغاني «قرشك في جيبك... سَتَرَ عيبك وفضله عليك...»، وقد كان الناس في القرى ينصحون المقدم على الزواج قائلين «خلي قرشك وِشّك» أي قدّم قرشك ودعه يفاوض ويتكلم ويغري أهل العروس، وقد ظل القرش حتى أواخر السبعينيات محترماً وقادراً على أداء واجباته وأظننا لم ننس قصيدة الشاعر الراحل أمل دنقل «العشاء الأخير» التي يقول فيها:

حين دلفت داخل المقهى

جرّدني النادل من ثيابي

لكنني منحته قرشاً

فزين الوجها..

ببسمةٍ كلبيةٍ بلْها..

ثم رسمتُ وجهه الجديد فوق علبة الثقابِ.

وقد ظل القرش قادراً وقديراً إلى أنهت الدولة ارتباطه بالرغيف قبل أكثر من عشرة أعوام وهو الارتباط الذي دام عقودا عديدة ظل أثناءها القرش قادرا على شراء رغيفين على الأقل وبعد رفع ثمن الرغيف إلى خمسة قروش تلقى القرش صفعة زلزلته وأطاحت به وجعلته بلا وظيفة وعاجزا عن شراء أي شيء وأدخلته دائرة الوجود العدمي ثم الاختفاء رغم القصص والمواويل والأمثال والأغاني التي مازالت تتحدث عنه وتشيد به.

بعد وفاة واختفاء القرش وعائلته «نصف القرش وربعه والمليم» لم يبق سوى الجنيه بتاريخه الأسطوري والعريق، فقد كانت له حتى منتصف السبعينيات «شنّة ورنّة» كما يقول الناس في القرى المصرية يستطيع بها إزالة ولحلحة الحوائط والسدود والعوائق لذلك منحه الناس اسماً مدهشاً ودالاً هو «اللّحْلوح» ومازلت أتذكر «اللحاليح» الثلاثة التي فزت بها عندما أنهيت المرحلة الإعدادية بتفوق في بداية الستينيات، فقد راح والدي يسألني عن مشاريعي وخططي لإنفاق هذه الثروة، ولما كنت في هذه الفترة صبيا ذكيا يميل إلى الاستثمار وتعظيم ثروته فقد اقترحت شراء خروف صغير لي لكي يأكل في الحقول ويكبر ثم يباع «بلحاليح» أكثر، وقد حدث كل شيء تقريبا كما توقعت ولكن الخروف كان مشاكسا ومحبا للهو ولا يعرف أقدار الآخرين، ومن ثم قضت عليه بقرة شاكسها ذات ليلة برفسة هائلة.

حتى منتصف السبعينيات ظل الجنيه «لحلوحاً» عظيماً ومبجلاً نستطيع به شراء الجنيه الذهبي بالإضافة إلى وجبة خفيفة «الجنيه الذهبي تجاوز ثمنه الآن ألف جنيه».

لكنه مع بداية التحول الاقتصادي والانفتاح بدأ يعاني ويهتز، وكانت انتفاضة يناير 1977 أول احتجاج شعبي هائل على هذا الاهتزاز وكان أبرز شعار يرفعه المحتجون ويهتفون به هو «سيد بيه يا سيد بيه... كيلو اللحمة بقى بجنيه» لكن الزمن دار دورته، وبسبب سياسة الخصخصة والمصمصة في الأعوام الأخيرة تبخرت مهابة الجنيه، وانهارت فعاليته ولم يعد قادراً على إزاحة ذبابة خاصة بعد ارتفاع أسعار السلع الغذائية في الفترة الأخيرة، وصار فقط قادراً على شراء صحيفة يومية أو ثلاثة أرغفة من الخبز الصغير غير المدعوم، وأظنه الآن يسعى كزميله المغفور له القرش إلى دوائر الوجود العبثي.

هذا الانهيار أربك الجميع وصار قضية المصريين الكبرى حكومة وشعباً ويكفي أن نشير إلى متاهة الأجور ومطالبة كل الفئات بمضاعفة أجورها واللجوء إلى الاعتصامات والإضرابات لتحقيق مطالبها التي تتغير كلما ارتفعت أسعار السلع الأساسية، فقبل شهور طالب بعضهم برفع الحد الأدنى للأجور من 35 إلى 300 جنيه، ثم ارتفع هذا الحد الأدنى إلى 500 جنيه ثم 600 جنيه ثم قررت لجنة الأجور باتحاد النقابات العمالية المطالبة بحد أدنى لا يقل عن 800 جنيه في الأسابيع الأخيرة بعد دراسة أجرتها على الأسرة المصرية واحتياجاتها الضرورية.

لكن حكومة رجال الأعمال المشغولة ببيع كل شيء وتنفيذ تعليمات المؤسسات المالية الدولية والساعية الى تقليص الدعم أو إلغائه لن تستطيع حل معادلة الأسعار والأجور وإحداث التوازن بينهما، فوزير الصناعة أعلن قبل أيام أن مصر ليست غنية كالدول الأروبية أو كدول الخليج العربية، ولا تستطيع من ثم مضاعفة الأجور ووزير التخطيط أعلن قبل شهور أن المواطن المصري يستطيع أن يعيش محترماً إذا كان دخله اليومي مئة وخمسين قرشاً، والرجل على ما يبدو مازال يعيش في عصر المغفور له «اللحلوح» العظيم الراحل.

* كاتب وشاعر مصري