أين شريهان الآن؟ سؤال حائر على شفاه المعجبين بفن هذه النجمة الجميلة التي اخترقت عواطفنا وقلوبنا وأبهرتنا...ماذا حدث لها؟ هل ستعود الى الأضواء أم ستعلن اعتزالها؟ هل ستكتفي بدور الأم لابنتها الوحيدة لولو؟ هل انتهت آلامها مع المرض أم تتابع علاجها؟أخبار كثيرة تملأ الوسط الفني وتؤكد قرب عودة شريهان من خلال المسلسل الديني التاريخي «رابعة العدوية» (كتبه الشاعر الراحل عبد السلام أمين) الذي استعدت له أكثر من مرة، وفي كل مرة يتوقف الحلم في تصويره! كذلك تردد أن شريهان عائدة من خلال الإذاعة في مسلسل رمضاني وهو أمر لم يحدث بعد!حين نقلت «الجريدة» هذه الاسئلة الى شريهان جاء الرد عبر مدير أعمالها وكاتم أسرارها جمال مؤكداً أنها ما زالت تحلم بتقديم عمل فني واحد تعلن بعده اعتزالها الى الأبد.
وأوضح جمال أنّ شريهان تعود إلى باريس من حين إلى آخر لمتابعة رحلة العلاج الصعبة والطويلة في مستشفى خاص.
أدّت العمرة أكثر من مرة وإن كان الأطباء المعالجون لها حذروها من أداء فريضة الحج لصعوبة تحملها مشقته وهي في هذه الحالة. ورغم الآمها تجدها تتابع ما يدور حولها في الوسط الفني.
أما الخبر الحزين فهو إصابتها بحالة من عدم التركيز نتيجة كثرة الأدوية التي تناولتها وهو ما يجعل عودتها إلى التمثيل، في الوقت الراهن على الأقل، أمراً شبه مستحيل، لأنّه يحتاج الى تركيز شديد.
حالة شريهان المعنوية «في السما» يؤكد مدير أعمالها، مضيفاً أنها تتقبّل ما يحدث لها بإيمان غير عادي وصبرٍ مدهش.
عودتها غير المؤكدة دفعتني إلى استرجاع صفحات من «كتاب الالم» الذي عاشته والذي اختارت لي الاقدار ان أكون شاهداً على أحد فصوله القاسية، حين بدأت رحلتها الطويلة مع المرض وقررت آنذاك أن تفتح لي قلبها لتروي بصدق وشجاعة قصتها مع الاحزان في حوارٍ امتد أعواماً وحان اليوم وقت كتابته.
بداية المحنة
كانت شريهان يومها في مدينة الإسكندرية تعرض مسرحيتها «شارع محمد علي». الكل ضبط ساعته على موعد قدومها فهي تعشق الالتزام. والتزامها ليس قيداً حديدياً إنما مشاعر من حرير غزلتها في نفوس كلّ من يعمل معها. فحرصها على التواجد في المسرح قبل رفع الستارة بساعتين قانون لا يمكن للعاملين معها الخروج عنه.
ورغم مرور أكثر من أربعة أعوام على عرض المسرحية تشعر شريهان، في كلّ ليلة، أنها الليلة الأولى وتعيشها في ترقبٍ وقلقٍ وارتباك.
تبدو الصورة، خلف الكواليس، وكأنها سيمفونية موسيقية هادئة وصاخبة في الوقت نفسه. قبل وصولها تبدأ حركة الاستعداد فينتظرها المعجبون لتحيتها ولتوقّع لهم الاتوغرافات أو للفوز بصورة تذكارية معها!
بمجرّد سماع بوق سيارتها يندفع الجميع اليها صائحين مهلّلين: «شيري وصلت يا جماعة!».
طقوسها الخاصة
تدخل شيري غرفتها فتنهال عليها سلامات من فنانين مشاركين في العرض. ثم تبدأ طقوسها الخاصة: تشرب فنجان قهوة قبل أن تضع ماكياجها وترتدي ثياب الشخصية التي تجسّدها.
أمر يحدث بانتظام وتواتر يوميّ كلّ ليلة، إلا... هذه الليلة.
اقترب موعد رفع الستارة ولم تحضر شريهان!
مرّت الدقائق وارتسمت على الوجوه إمارات الاستفهام وملامح القلق ومشاعر الخوف وشريهان لا تلوح في الافق. غصّت الصالة بالجمهور واستعدّ الراقصون لرقصة البداية والممثلون في جهوزية تامة وشريهان لم تحضر بعد!
طال غيابها من دون عذر مبرّر، فحتى مدير أعمالها جمال لم يملك جواباً واضحاً عن سبب الـتأخّر هذا فراح يؤكد للجميع أنها في طريقها الى المسرح وقد تأخرت بسبب إشارات المرور المتكرّرة.
الساعة العاشرة والنصف، موعد رفع الستارة. تحول القلق إلى رعب مخيف. هتفت بعض الاصوات: «استر يارب! ماذا جرى لبطلة فرقتنا؟».
لم يثلج أحد صدرهم فما كان بوسعهم الا الانتظار بمرارة.
في الحادية عشرة تماماً ظهرت سيارة شريهان
فاندفع الجميع إليها بلهفة.
لم يصدقوا أعينهم. هل هذه شريهان؟ إنها عاجزة عن الوقوف وتسند جسدها على شخصين.
تبدو بملامحها الشاحبة وعيونها الغائرة وخطواتها المتهالكة وابتسامتها المتعبة كأنها في أشد حالات المرض.
نعم... لم تكن شريهان مريضة فحسب بل كانت تحتضر ببطء. إنها عائدة من عيادة الطبيب الذي صرخ في وجهها قائلاً: «أنت تعانين من نزلة شعبية حادة تقترب من الالتهاب الرئوي. حالتك خطيرة جداً ويجب أن تذهبي إلى البيت فوراً».
لم تمتثل الى أوامره بل قصدت المسرح بعزمٍ وبصوت متهدّج قالت لي: «كيف آخذ إجازة وفي رقبتي أكثر من 150 إنساناً يعملون معي. كيف أغلق باب رزقهم؟ كيف لا أحترم جمهوراً حضر وجلس ينتظرني».
بادرها الفنان هشام سليم بالقول بنبرةٍ حاسمة: «أنت مجنونة يا شيري... هذا انتحار!».
ابتسمت ابتسامة واهنة وقالت: «المسرح ده بيتي ودوائي وعمري كله. الحب «مسؤولية» ولازم أكون على قدر هذه المسؤولية».
وبصعوبة خضعت لأنامل خبير التجميل الذي بذل جهداً كبيراً لاخفاء معالم الإرهاق والتعب على وجهها.
كانت تتجمل والالم يمزّقها إرباً. سألتها: «كيف ستقفين على خشبة المسرح وأنت بهذه الحالة؟»، وردّت: «ليس ما أعاني منه الآن شيئاً مقارنة مع ما حدث لي!».
حاولت الحصول على قسط من الراحة لعشر دقائق قبل رفع الستارة. تمدّدت على كنبة في غرفتها فغلبها النعاس وسمحت لنفسي بالتقاط صورة تجسّد صعوبة اللحظة.
دقّ مدير خشبة المسرح باب غرفتها فاستيقظت ووقفت أمام المرآة متأمّلة نفسها، وفجأة انهمرت دمعة من عينها. كانت تتوسل دموعها ألا يخذلها الوجع وألا يهزمها الألم وألا يعوقها المرض على الصمود. كانت تريد أن تصنع من دموعها حافزاً لنفسها يجعلها تؤدي دورها بالاتقان نفسه الذي اعتاده منها الناس!
وكانت العيون تتابعها بدهشة منحنية أمام إصرارها على عدم تأجيل العرض.
وما هي إلا لحظات حتى تحوّلت الدهشة إلى إعجاب وتقدير. فبمجرد اعتلائها المسرح وتصفيق الجمهور لها تحولت إلى كائنٍ آخر يمثل ويغني ويقفز بخفة ورشاقة وثقة في النفس.
كان جهدها مدهشاً وهو إن دلّ على أمر فهو أنّ هذه الفنانة الصغيرة السن والكبيرة التجربة تعشق النجاح وتكره اليأس. ترفض الهزيمة وتعشق القمة حيث لا يتربّع نجم بضربة حظ أو مصادفةً بل بثمن حبات عرقٍ وقطرات دمعٍ ومشاعر تضحية وتنازلات كبيرة.
شريهان أمامي، تمسح عرقها وتتنفس بصعوبة. تبدّل ملابسها وتشرب كوب ماءٍ خلف الكواليس متعمّدة على تحويل كل تنهيدة «آه» إلى حركة «فنية».
صورة نادرة لفنانة نادرة تعيش لفنها وتخلص له، وتعوض حاجتها للحب في إخلاصها للفنّ الذي ينسيها عذاباتها فتحرص على نجاحها، ربما أكثر من حرصها على حياتها.
انتهى العرض. أسدلت الستارة. التصفيق يتعالى. تتحسّس دموعها. تشعر بطعمها في فمها. ولكنّ مذاقها مختلف هذه المرة: إنّه مذاق السعادة لادراكها أنها «مدمنة تحدي» وأنها بلا شكّ قادرة على تحويل عجزها إلى تألق وألمها إلى حلمٍ جميل تهديه باقةً عطرة الى جمهورها ...
(يتبع)