مستقبل ثقافة الحوار الديني مرهون بقدرتنا على تفكيك المنظومة الثقافية الموروثة عن الأقدمين، وهي للأسف لا تخلو من عناصر تعصبية معوقة للتواصل مع المخالف الداخلي ومعادية للآخر الخارجي. لقد آن لدول الخليج أن تحجّم «دعاة الكراهية» الذين يتصيّدون إساءة صادرة من نكرة غربي لديننا أو لنبيّنا عليه الصلاة والسلام ليُضخموا ويُهوّلوا إساءات الغرب ضدنا.ينبغي الترحيب بقرب موعد افتتاح الكنيسة الكاثوليكية كأول كنيسة رسمية تفتتح في قطر، وتأتي هذه الكنيسة ضمن مجمع الكنائس الجاري بناؤها بما يضمن لكل الفرق المسيحية أن تكون لها دار للعبادة تمارس فيها طقوسها بحرية وأمان.
ولعلنا نتذكّر أن الدوحة وعلى امتداد السنوات السبع الماضية نجحت في استقطاب مؤتمرات حوار الأديان السماوية الثلاثة، وكذلك الحوار والتقارب بين المذاهب الإسلامية المختلفة بهدف تحقيق التعايش المشترك بالاتفاق على صيغة تحترم الاختلاف الديني والمذهبي، وتقرر بحق كل دين في دار للعبادة إضافة إلى تحقيق المصالح المشتركة وتعزيز المشترك الديني وتحجيم الاختلاف والنزاع واحتواء التوترات الناتجة عن التعصبات الدينية والمذهبية أيضاً، وهذه من الأمور المهمة التي أثمرتها تلك الحوارات الدينية والمذهبية: السعي إلى تحقيق فهم أفضل لذاتنا وللآخر المختلف -ديناً أو مذهباً- عبر تفكيك الصورة النمطية السلبية التي كوّنها كل طرف عن الآخر، إذ عبر اللقاء المباشر يمكن تصحيح تلك الصورة المشوهة بالاطلاع المباشر على حقيقة الرؤى والتصورات والمفاهيم لدى كل طرف تجاه الآخر، ولذلك كان من الضروري مشاركة رجال الدين اليهود في تلك المؤتمرات لأنه لا مصداقية لمؤتمر حوار بين الأديان إذا كان أحد الأطراف الثلاثة مغيباً، وهو الهدف الذي لم يفطن له هؤلاء الذين قاطعوا مؤتمري الدوحة الثالث والرابع اللذين شارك فيهما يهود إسرائيليون، وقد كتبت في حينه مقالاً وصفت هؤلاء المقاطعين من المشايخ -دعاة الإسلام السياسي- بأنهم إقصائيون لا يؤمنون بثقافة الحوار ولا مصداقية لهم في ادعائهم الوسطية والتسامح وحرية الحوار واحترام حقوق الآخر، وإن تظاهروا عبر المنابر والفضائيات بأنهم دعاة حوار، وصفت هؤلاء بأنهم «دعاة كراهية» لا «دعاة محبة وتسامح» وأحد هؤلاء يشغل رئيساً للمنتدى الإسلامي وهو منتدى تابع لرابطة العالم الإسلامي، قاطع مؤتمرات الدوحة لحوار الأديان وصرح أمام الإعلام بأننا قررنا مقاطعة مؤتمرات الدوحة بسبب دعوة رجال دين يهود لا ينكرون المظالم الإسرائيلية!! ليته قاطع والتزم السكوت لأن تصريحه هذا شيء مضحك: كيف يريد وهو رئيس لمنتدى حوار إسلامي أن يفرض شروطه على الآخرين قبل أن يحاورهم؟! وهل هذا يصلح رئيساً لمنتدى حوار؟
خطوة قطر في إنشاء مجمع للكنائس تستحق الإشادة والتقدير وهي ثمرة من ثمار حوار الأديان الذي ينبغي أن يستمر ويتعمق وينتشر ليحقق مزيداً من الثمرات العملية على أرض الواقع تحقيقاً للمصالح المشتركة وترسيخاً لقيم التسامح والمحبة بين الناس.
نعم مؤتمرات حوار الأديان والمذاهب ضرورة حضارية وثقافية ودينية وإنسانية يجب أن تُدعم وتُكثّف وتُفعّل، ومهما قال المرجفون والمشككون والمرتابون: إن هذه المؤتمرات لا قيمة لها إلا الكسب الدعائي والإعلامي إلا أن ذلك يجب ألا يُثبّط جهود المخلصين دعاة التسامح والمحبة والسلام من الاستمرار في مثل هذه اللقاءات المثمرة لأن البديل الآخر هو ترك الساحة الإعلامية والجماهيرية لدعاة الكراهية والصدام الحضاري والديني عندنا وعند الآخرين ليخطفوا الأديان ويوظفوها في خدمة مخططات ومحاور الهدم والتدمير والفُرقة والتباغض كما هو حاصل الآن في محاولات «القاعدة» والمتعاطفين معها من الكتّاب والمشايخ الذين خطفوا مفهوم «الجهاد» الإسلامي وحوّلوه إلى مفهوم عدواني استحلوا به دماء وأموال المسلمين أنفسهم بحجة أن عمليات «القاعدة» وأتباعها تأتي دفاعاً عن كرامة الأمة وشرفها أمام جبروت وطغيان الآخر الغربي والأميركي الذي يريد إذلال المسلمين وإخضاعهم لمخططاته، وهي شعارات كاذبة وزائفة تُستغل لخداع الشباب المسلم المتحمس بغية تجنيده وتوريطه في العمليات الإرهابية التي شقيت بها مجتمعات المسلمين أنفسهم، أكثر من غير المسلمين، وما ذلك إلا بفعل «الخطاب التخويني» الذي أشار إليه د. إبراهيم عرفات في مقالة سابقة.
هذا الخطاب الذي تم ترويجه عبر منابر وفضائيات، ومن قبل جماعات سياسية دينية «حزب الله، حماس، الإخوان» ودول عربية وإسلامية ذات أنظمة شمولية لكنها مأزومة في علاقاتها الخارجية مع الغرب وأميركا لفشلها المزمن في الوصول إلى صيغة سياسية تصالحية مع الداخل قبل أن تتصالح مع العالم الآخر، كما فشلت في كل مشاريعها التنموية بسبب تصلبها الأيديولوجي وحاكمية الشعارات لسلوكياتها السياسية. تلك الدول المأزومة، وبسبب تعاظم شعورها بالعجز في الداخل وعزلتها مع الخارج، أصبحت لا تجيد شيئاً الآن إلا أمرين: فن الاتهام بالخيانة والعمالة لحكومات وأنظمة دول الاعتدال العربي بسبب علاقاتها الوثيقة بالغرب وأميركا، والأمر الآخر: فن التأزيم والتخريب والتفجير واللعب على التناقضات المذهبية من أجل استمرار الفوضى والتدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية عبر حلفائها من الجماعات الدينية المنتشرة في النقابات والاتحادات والجمعيات والأحزاب التي تشتري ولاءاتهم بأموالها على حساب شعوبها المغلوبة على أمرها.
وللأسف فإن بعض كتابنا وبسبب عقد أيديولوجية كارهة للغرب وأميركا هي بقايا يسارية وبعثية طفولية إضافة إلى علل نفسية كامنة منذ الصغر، أصبحوا اليوم أبواقاً مجانية في خدمة تلك الدول المأزومة والجماعات الدينية البائسة تحت شعار وهمي خادع «مشروع شرق أوسط إسلامي» في مواجهة «مشروع الشرق الأوسط الإسلامي» هؤلاء حقاً لا يخجلون من أنفسهم، يعيشون في دول متحالفة مع من يكرهونها ويعرفون أن ما ينعمون به من معيشة إنسانية كريمة ومحترمة إنما تحقق بفضل دول الاعتدال والعقلانية التي اختارت لغة المصالح المشتركة بديلاً عن العنتريات والمناطحة والممانعة في علاقاتها الخارجية، ولو صدقوا في طروحهم الزائفة لذهبوا هناك للعيش في ظل تلك النظم والجماعات التي يدافعون عنها، ولكانت حياتهم بائسة، لكنه جحود النعمة وعض يد الجميل ولا نقول إلا «إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى» تجدهم قبل أن يقوم الرئيس الأميركي بزيارته إلى المنطقة ملأوا الصحف والفضائيات ضجيجاً بطبول الفشل!!
على الدول الخليجية تعزيز ثقافة الحوار الديني والمذهبي لأن المستقبل مرهون بإيجاد أرضية مشتركة أمام كل الفرقاء في الداخل و الخارج لبناء علاقات أفضل للتعايش وللإنتاج والبناء من دون إقصاء لأحد أو تكفير أو تخوين. لذلك يجب دعم كل الجهود لاستثمار الوجه المشرق للحضارة الإسلامية وللأمة الإسلامية باعتبارها أمة تدعو إلى الخير والتسامح والمحبة والسلام، وحتى يأتي هذا الاستثمار نافعاً يجب مراجعة كل المناهج الدراسية وإعادة النظر في دور المنابر الدينية وترشيد الإعلام والفضائيات، وكذلك التشريعات والقوانين الحاكمة لمجتمعاتنا بتخليصها من العناصر المعوقة تجاه بناء علاقات صحية ناضجة مع الآخر.
ومن هذا المنطلق أحيي المحكمة السعودية التي حكمت بسجن إمام مسجد «7» أشهر وجلده «150» جلدة لتهجمه على الغرب في خطبة دينية معادية ودعائه عليهم وعدم التزامه بالتوجيهات، مثل هذا الأمر لو عُمّم وفُعّل «خليجياً» سيحجّم دعاة الكراهية ويلزمهم حدّهم ويقي المجتمعات شرورهم، لذلك على دولنا خصوصاً السلطات الدينية مراقبة أئمتها الذين يستغلون المنابر لبث الكراهية والدعاة للإرهابيين والدعاء على الغرب والصليبيين واليهود، هؤلاء فضلاً عن أنهم يهدمون سياسة دولهم تجاه بناء علاقات أفضل مع الآخر، فإنهم بجهلهم يضرون بمصالحنا وبغرورهم الفارغ يسيؤون إلى ديننا العظيم، الدعاء على الآخرين ينم عن عجز وجهل لأن هذا الإمام لو كان لديه أدنى معرفة لأدرك أن ما ينعم به من سيارة توصله إلى المسجد وميكرفون يخطب فيه وكل مستلزمات معيشته ومسجده، إنما تم بفضل هذا الغرب الذي يلغيه!! يقول تعالى «وقولوا للناس حسناً» بينما هو لا ينطق إلا سيئاً. ويجب أن نحيي قبول «البابا» عقد لقاء مع مجموعة من العلماء المسلمين «138» عالماً إسلامياً بعثوا له يطلبون الاجتماع به وسيتم ذلك في مارس القادم، وفي هذا المقام، نثمن أيضاً قرار الكونغرس التاريخي في اعتبار الإسلام من أعظم الأديان، وعلى الذين مازالوا يرددون نحن نعترف بالدين المسيحي وهم لا يعترفون بنا أن يكفوا عن تضليلنا وخداعنا، فالعالم كله يعترف بالإسلام ويحترم شعائره وعلى رأسه «الأمم المتحدة»، والغرب وأميركا منحوا المسلمين حقوقاً لا يحلمون بها في أوطانهم الأصلية، وأقول لدعاة الكراهية والصدام الديني: كفاكم اصطناعاً لعدو ديني تثيرون به عواطف الجماهير لتبرروا مناصبكم ونفوذكم ومصالحكم، فالإسلام يجد قبولاً واسعاً في العالم وعدد المسلمين يتزايدون والإسلام هو الأكثر انتشارا.ً لا أحد يعادي الإسلام إلا قلة متطرفة لا أهمية لها، لكن الأعداء الحقيقيين للإسلام هم بعض المسلمين من أتباع «القاعدة» والمتعاطفين معها في عملياتها العدوانية... وكذلك أقوال وتصرفات بعض المتعصبين الذين يسيؤون إلى الدين بتفسيراتهم المتعصبة الذين يقولون لا تجوز تهنئة المسيحيين بالميلاد ورأس السنة، ولذلك أعجبني ما قام به «138» عالماً مسلماً بإرسالهم تهنئة خاصة للمسيحيين بمناسبة الميلاد استكمالاً لـ«كلمة سواء» الصادرة من أبوظبي وحسناً فعلت كنائس العراق بأعياد الميلاد التي شهدت مشاركات إسلامية واسعة، ولابد من الإشادة بالتقليد الدارج من قبل قيام كبار وزارة الأوقاف في أبوظبي سنوياً بتهنئة المسيحيين وزيارتهم.
مستقبل ثقافة الحوار الديني مرهون بقدرتنا على تفكيك المنظومة الثقافية الموروثة عن الأقدمين، وهي للأسف لا تخلو من عناصر تعصبية معوقة للتواصل مع المخالف الداخلي ومعادية للآخر الخارجي. لقد آن لدول الخليج أن تحجّم «دعاة الكراهية» الذين يتصيّدون إساءة صادرة من نكرة غربي لديننا أو لنبيّنا عليه الصلاة والسلام ليُضخموا ويُهوّلوا إساءات الغرب ضدنا... إن ما يجمع الأديان والثقافات والشعوب أكثر مما يفرقها، وعلينا قطع الطريق على دعاة المقاطعة والصدام، وذلك مرهون بقدرة دعاة المحبة والتسامح والسلام على ممارسة أدوارهم.
* كاتب قطري-تنشر بالمشاركة مع «الوطن» القطرية