حوار واشنطن - طهران: سراب الحقيقة
المشكلة الحقيقية التي ستبقى رافعة رأسها هي: هل تقبل واشنطن بمبدأ تقاسم النفوذ، بالتساوي أو غيره، مع الجمهورية الإسلامية؟ بكل موضوعية أقول: لا. لأن واشنطن لم تقطع آلاف الأميال حاملة جيوشها وأدوات حربها الثقيلة، ولم تصرف «تريليونات» الدولارات وآلاف القتلى والجرحى لتقبل «بمناصفة» نفوذها في المنطقة مع إيران.
لنفترض أن ما نشرته «الإندبندنت الإنكليزية» في الأسبوع الماضي عن وجود قناة حوار سرية بين واشنطن وطهران لحل مشكلة امتلاك إيران القدرة النووية، سواء كانت للاستخدام الصناعي أو العسكري... لنفترض أن هذا الخبر صحيح، فما نصيب هذا الحوار من النجاح؟ وبالتالي ماذا تستطيع الولايات المتحدة أن تقدم إلى الجمهورية الإسلامية والعكس بالعكس، باعتبار أن أي حوار بين طرفين مختلفين على قضية ما، أو عدة قضايا مرتبط بعملية مقايضة: أعطني هذا.. أعطيك ذاك؟ مع الأخذ بالاعتبار أن نبأ الصحيفة الإنكليزية قد يكون مسرّباً أميركياً لغاية تكتيكية لا علاقة له بجوهر الموضوع الذي يحمل الطابع الاستراتيجي البحت.وتعميماً للفائدة، فإن ما نشرته «الإندبندنت»، أو ما سُرب إليها يشير إلى أن قناة الحوار السرية التي فتحتها واشنطن مع طهران عمرها اليوم خمس سنوات، أي أنها بدأت في أعقاب الغزو الأميركي للعراق، وربما قبله، أي أثناء التحضير العسكري له، الذي باركته طهران في حينه، بل تعاونت معه إلى حد بعيد.ولإضفاء المصداقية أشارت الصحيفة الإنكليزية التي تدعي الاستقلال صراحة إلى أن الدبلوماسي الأميركي السابق «توماس بيكرنغ» كان واحداً من الذين جلسوا في الغرف المظلمة مع المندوبين الإيرانيين للبحث في المشكلة النووية. لكن معلومات من مصادر أخرى أشارت إلى درجة التأكيد أن هدف هذا الحوار لم يكن نووياً بقدر ما كان سياسياً، والهدف وضع صيغة تعاون وتعايش بين طهران وواشنطن خلال فترة غزو العراق واحتلاله. لكن الفريقين سرعان ما اختلفا على الشروط ومازالا إلى يومنا هذا.بداية، ماذا يعني تسريب خبر قديم عن حوار سري في هذا الوقت بالذات؟ في نظر المحللين والمراقبين يعني شيئاً واحداً، وهو أن واشنطن، في فترة نهاية ولاية بوش، قد خلعت من يدها قفاز التحدي ورمته جانباً، بغية وقف قرع طبول الحرب التي استبدلتها بعزف موسيقى سيمفونية هادئة، أو أنغام رقصة «تانغو» حالمة تحتاج دائماً إلى اثنين لممارستها.أما لماذا فعلت واشنطن ذلك، وفي هذا الوقت بالذات، فهناك تحليلات كثيرة تحتاج إلى كمية كبيرة من الحبر والورق غير متوافرة «فنياً» لذكرها في هذا المقال. لكن بالإمكان اختصار هذه التحليلات بالقول إن واشنطن قد استسلمت مؤقتاً إلى الواقع المرّ الذي حشرت نفسها فيه، بعد أن أدركت أن الاستمرار في قرع طبول الحرب ربما يؤدي في النتيجة إلى ارتكاب أخطاء غير محسوبة، صغيرة أو كبيرة، تشعل نيران حرب إقليمية شاملة من شأنها أن تؤدي إلى حرب عالمية ثالثة. وواشنطن ليست مستعدة الآن، عسكرياً ومادياً وسياسياً، لخوض مثل هذه الحرب التي تعرف كيف تبدأ، ولكنها تجهل تماماً كيف ستتطور، لا هي ولا طهران ولا غيرها من القوى الدولية. لذلك، قررت واشنطن في نهاية عهد بوش، استبدال قرع طبول الحرب بعزف الموسيقى الحالمة لتهدئة الأعصاب أولاً، ولتوريث الإدارة الأميركية الجديدة، التي من المرجح أن تكون ديموقراطية الهوية والهوى، هذه المعضلة مع كل مشاكلها الكثيرة التعقيد. وفي حال أقدمت طهران على نفي خبر «الحوار السري» جملة وتفصيلاً، فبالإمكان اعتبار هذا النفي في مجال التأكيد، لأن ظواهر الأمور تشير، بما لا يقبل الشك، أن ما تريده واشنطن وتسعى إليه، ترغبه طهران ألف مرة لكن لكل منهما شروطه. فالمطلوب أولاً أن يتفاهما على نسج خيوط، وبالتالي رسم خطوط وحدود اقتسام النفوذ في المنطقة الغنية المتنازع عليها. وتلك هي المبادئ الأساسية لأي حوار سري أو علني يُطلـَق عليه اسم «المقايضة». نعود إلى حيث بدأنا. ماذا تستطيع إيران أن تقدمه إلى واشنطن لإنجاح المقايضة، ثم هل تقبل بشروطها؟أولاً وقبل أي شيء آخر فإن المطلوب أميركياً من العاصمة الإيرانية هو مساهمتها الفعالة في حماية أمن إسرائيل، ومن دون تحقيق هذا الهدف الاستراتيجي لكل إدارة أميركية، فإن أي حوار محكوم بالفشل قبل أن يبدأ، فالشرط الأول والأساسي الذي تعرضه الولايات المتحدة هو البدء بوضع صيغة لرفع التهديدات عن كاهل إسرائيل المتعب. إن واشنطن تعتبر قبول طهران بهذا المبدأ بمنزلة نصف الطريق نحو التفاهم قبل بحث موضوع تقاسم النفوذ في منطقتنا الغنية بكل شيء إلا من الإرادة الوطنية والسيادة الكاملة. فهل تقدم طهران على ذلك؟إن تجارب الماضي القديم علمتنا أن المصلحة هي وحدها فوق أي اعتبار آخر، كذلك علمتنا التجارب أن المصلحة لا تقاس بالشعارات والعاطفة، بل إن ميزانها الدقيق هو الوصول إلى تحقيق هذه المصلحة، أو مجموعة المصالح بصرف النظر عن أي اعتبارات أخرى.أيضاً، علمتنا تجارب السنوات الماضية، أن الجمهورية الإسلامية الإيرانية ساومت على شعاراتها المرفوعة في سبيل تحقيق مصالحها عندما تعاونت بالسر والعلن مع إسرائيل، بواسطة أميركا، في الحرب العراقية-الإيرانية واشترت سلاحاً إسرائيلياً بمباركة أميركية، وفي الوقت الذي كانت فيه واشنطن تساند صدام حسين بكل ما لديها من قوى تكنولوجية واستخباراتية. وكان الهدف الأميركي من وراء ذلك ثلاثي الأبعاد: ألا يربح صدام الحرب بالمعنى الحقيقي للربح، وأن يُهزَم الخميني، أيضاً ليس بالمفهوم الحقيقي للهزيمة، وأن تبقى الحرب مشتعلة بينهما إلى أطول مدة ممكنة. وربما شارك بعض الدول العربية وساهم في تطبيق هذه النظرية الثلاثية بنجاح منقطع النظير حفاظاً على مصالحها المستقبلية. فصدام لم يربح الحرب لأنه لم يهزم إيران، والدليل على ذلك ما نشاهده في يومنا هذا. والخميني لم يكسر صدام بدليل استمراره في الحكم سنوات وسنوات إلى أن تولت الولايات المتحدة هذه المهمة. والحرب العراقية-الإيرانية التي كان مقدراً لها أن تستمر ستة أشهر في حسابات الآلة العسكرية العراقية، بقيت ثماني سنوات، أي ضعف المدة التي استغرقتها الحرب العالمية الثانية.نقول ذلك لنصل إلى النتيجة: إن ايران، بالرغم من كل ما قيل ويقال، والشعارات الطنّانة الرنانة التي رُفعت والتي سترفع... وبالرغم من تصريحات الإبادة الكاملة والإزالة عن الخريطة التي تتبادلها اليوم كل من تل أبيب وطهران وعلى السنة عسكرييها وسياسييها، فإن احتمالات اشتراك طهران ببرنامج مستقبلي لحماية الأمن الإسرائيلي بشكل أو بآخر يبقى وارداً في ظل نظرية وضع المصلحة فوق أي اعتبار آخر. لكن المشكلة الحقيقية التي ستبقى رافعة رأسها هي: هل تقبل واشنطن بمبدأ تقاسم النفوذ، بالتساوي أو غيره، مع الجمهورية الإسلامية؟ بكل موضوعية أقول: لا. لأن واشنطن لم تقطع آلاف الأميال حاملة جيوشها وأدوات حربها الثقيلة، ولم تصرف «تريليونات» الدولارات وآلاف القتلى والجرحى من جنودها، وهي مستمرة بذلك، ثم تأتي في النهاية لتقبل «بمناصفة» نفوذها في المنطقة مع إيران، حتى لو قبلت طهران بـ«حماية» أمن إسرائيل من حيث المبدأ، ذلك لأن المعروف عن أميركا، بعد زوال الاتحاد السوفييتي في نهاية القرن الماضي، إنها لن تقبل بأي شريك لها في الهيمنة على العالم، وهي مستعدة لمواجهة القوى العالمية البديلة مثل الصين وروسيا وغيرهما حفاظاً على إيديولوجية: لا شريك لها.أما تسريب الأخبار عن حوارات سرية، وربما مستقبلاً لقاءات علنية، وعزف الموسيقى الحالمة التي يصاحبها قرع طبول الحرب... كل ذلك يبقى كلاماً بكلام لا طائل تحته ولا فوقه. * كاتب لبناني