لعبة الورقات الثلاث في الأزمة اللبنانية

نشر في 26-12-2007
آخر تحديث 26-12-2007 | 00:00
 علـي بلوط

الأكثرية كانت -وربما لاتزال- تراهن على كسب نواب «حركة أمل» بواسطة بث الفرقة مع «حزب الله»، بغية ضمان ثلثي أعضاء المجلس النيابي لانتخاب رئيس تابع لهم، والحقائق تشير إلى أن هذا «الحلم» تحول إلى خداع للذات، وفي المقابل، فإن المعارضة تراهن على استجلاب الزعيم الدرزي وليد جنبلاط ونوابه إلى حظيرتها وهو نوع من أنواع الوهم وخداع الذات أيضاً.

الأزمة في لبنان في سباق مع الساعة، فبعد زيارتي دايفيد والش، نائب وزيرة الخارجية الأميركية إلى بيروت في الأسبوع الماضي، وبعد تصريح رئيسه بوش الذي دعا فيه الأكثرية النيابية إلى انتخاب رئيس جديد بأكثرية «النصف زائد واحد»، وبعد أن شربت الموالاة حليب السباع وانتشت إثر ذلك، أخذت الأحداث في لبنان تتسابق مع دقات الساعة حيث بات الكلام عما حدث، وعما سيحدث حديثاً مرّ عليه الزمن.

لكن تبقى في زوايا الأزمة بعض النقاط الخفية سنحاول تسليط الضوء عليها لعلها تكشف الطريق المظلم من أجل معرفة ما سيحدث في الأيام وفي الأسابيع القادمة.

في العام 1870، نشر في لندن باللغة الإنكليزية كتاب بعنوان «الأرض والكتاب» كتبه القس البروتستانتي «و.م.تومبسون» W.M. THOMSON. وكلمة الكتاب في معناها الكنسي تعني الكتاب المقدس في شقيه العهد القديم والعهد الجديد في انتشار الدعوة المسيحية.

ما يهمنا في هذا الكتاب هو الوصف الذي أطلقه القس تومبسون على الحالة الاجتماعية في لبنان والذي نقلته ووزعته شبكة «الإنترنت» التابعة للتيار الوطني الحر بزعامة العماد ميشال عون، واستناداً إلى الشبكة الإلكترونية، فقد جاء في الكتاب ما حرفيته: «يعيش في لبنان نحو 400 ألف نسمة، تجمعوا في نحو 600 بلدة وقرية ومزرعة، هؤلاء السكان ينتمون إلى ديانات ومذاهب مختلفة حيث يمارسون شعائرهم الدينية بطرق وأساليب متناقضة، ولم يتمكنوا من تأسيس مجتمع واحد مترابط، كما أنهم لا ينظرون إلى بعضهم بروح الإحساس المشترك والروابط الأخوية. السنّة يكفرون الشيعة، والاثنان معاً يكرهون الدروز وهؤلاء الثلاثة يكرهون ويحقدون على النصيريين، الموارنة لا يكنون أي حب لأي من هؤلاء، وفي المقابل فهم مكروهون من الجميع، المسيحيون الشرقيون (الأرثوذكس) لا يحتملون إخوانهم في الدين المسيحيين الكاثوليك. وكل هؤلاء مجتمعين يكرهون اليهود».

«...المجتمع لا يملك أسس بناء مجتمع صحي، وهو يسير دائماً في طريق الشرذمة المستمرة المبنية على الأخطاء المتكررة والحقد الدفين مما يدفع السكان إلى المزيد من الإرباك والارتباك، هذا الوضع المتشابك لا يمكن أن ينتج إلا الفوضى وبالتالي يقضي على احتمالات قيام السلام».

«...ليس بإمكان هؤلاء أن يتوصلوا إلى صيغة الشعب الواحد، كذلك لا يمكن أن ينصهروا تحت راية معيشية واحدة، لذلك فإنهم سيبقون ضعفاء، غير قادرين على حكم أنفسهم بأنفسهم، وبالتالي معرضين للتحكّم والغزو من قبل الغرباء. هذا هو حالهم اليوم وسيستمر إلى فترة طويلة: شعب منقسم على نفسه، غير قابل للتبدّل أو التوحّد وسيبقى معرضاً للإهمال من قبل الآخرين».

خلال البحث الأكاديمي عن مصدر هذا الكتاب، وعن مؤلفه القس البروتستانتي تومبسون، لم أعثر على أثر أو دليل يؤكد أو يشير إلى وجودهما سوى شبكة «الإنترنت» التابعة للتيار الوطني الحر التي نقلت هذه الحالة الوصفية للمجتمع اللبناني منذ أكثر من 150 سنة، وبالعودة إلى قراءة النص وتاريخ إعادة نشره، يظهر، بما لا يقبل الشك، أن الغاية من تعميمه هي تبني ما جاء فيه، وبالتالي إظهار لبنان بصورة الحالة المرضية اليائسة التي لا ينفع في شفائها لا الطب العربي ولا الطب الغربي، مما يدفع إلى الاعتقاد «الذي نرجو أن يكون خاطئاً» إلى بث القناعة في المساهمة بالدعوة إلى تقسيم البلاد، دينياً ومذهبياً، من الفدرالية إلى الكونفدرالية إلى الكانتونات إلى إقامة نظام الإمارات اللبنانية غير المتحدة. وهذه كلها تتناقض مع دعائم وأسس التبشير السياسي التي يعتمدها العماد عون وحزبه، مما يبعث على الاستغراب والاستهجان معاً. وقد لا يكون العماد عون شخصياً مسؤولاً مباشراً عما ينشر في «إنترنت» حزبه، لكن لا يمكن إعفاؤه مع مسؤولي النشر من المسؤولية المعنوية.

إن إعادة نشر أقوال هذا القس البروتستانتي، في حال وجودها أصلاً، قد تنطبق على الزمن الذي قيلت فيه، لكنها، بأي حال من الأحوال، لا تنطبق على لبنان اليوم، بل تنطبق وتتماشى مع أصول الدعوة الصهيونية إلى تقسيم البلاد العربية، المجاورة أو غير المجاورة لها، على أسس عرقية ودينية ومذهبية بحيث تصبح دولة اليهود الأقوى عسكرياً، والأكثر عدداً من الناحية الديمغرافية.

مع الرجاء والأمل أن تصل هذه الكلمات إلى العماد ميشال عون لعله يبادر إلى تصحيح أوضاع نشرته الإلكترونية بشكل يمنع وصول مثل هذه «التسريبات»، خصوصاً أن لبنان، وبالتالي الشعب اللبناني، بات يعتمد على قراءة النشرات الإلكترونية التي دأبت على بثّ السموم من دون رقيب أو حسيب، وأصبحت بالفعل أكثر تأثيراً من أدوات الإعلام الأخرى المرئية والمسموعة والمقروءة، في تشويه الحقائق، وزرع الشائعات، بغية زيادة الإرباك والارتباك في عقول وتصرفات المواطنين الضائعين في بحر هادر من إنصاف الحقائق والأكاذيب الكاملة.

على الصعيد السياسي ومآسيه، فإن المنطق السياسي، كما المنطق العسكري، يقول إنه كلما اقتربت ساعة الحسم يقوم الطرفان المتنازعان بإلقاء القنابل الدخانية ذات الأصوات المدوية لزرع الرعب في قلوب الفئة الأخرى تمهيداً لخوض المعركة الأخيرة. وما يحدث في لبنان هذه الأيام يجسّد هذا الواقع، فالطرفان المتقاتلان تراودهما أحلام اليقظة في اختراق صفوف بعضهما، فالأكثرية كانت -وربما لاتزال- تراهن على كسب نواب «حركة أمل» بواسطة بث الفرقة مع «حزب الله»، بغية ضمان ثلثي أعضاء المجلس النيابي لانتخاب رئيس تابع لهم، والحقائق تشير إلى أن هذا «الحلم» تحول إلى خداع للذات، فرئيس «حركة أمل» نبيه بري، منذ البداية يتصرف كواحد من صقور المعارضة بالرغم من ارتدائه لباس الحمائم في المناسبات الرسمية، وقد أثبت بري أنه سيد من مارس لعبة «الثلاث أوراق» الممنوعة بموجب القانون، إضافة إلى خبرته الطويلة في فن المناورة والتأرجح على أكثر من حبل وعدم الوقوع في الشباك المنصوبة له.

في المقابل، فإن المعارضة ينتابها هذا النوع من أحلام اليقظة، فهي تراهن بدورها على استجلاب الزعيم الدرزي وليد جنبلاط ونوابه إلى حظيرتها اعتقاداً منها أن حدوث ذلك من شأنه أن يقلب قواعد اللعبة رأساً على عقب، وجنبلاط، كخصمه التقليدي نبيه بري، يمتلك كل فنون المناورة والمراوغة والكرّ والفرّ، والدليل على ذلك أنه استطاع أن «يخدع» بعض أركان المعارضة عندما أعلن تراجعه عن معارضة انتخاب العماد ميشال سليمان، وعن المطالبة ببحث سلاح المقاومة وتخليه المبدئي عن استخدام «النصف زائد واحد» لانتخاب رئيس للجمهورية. وقد استفاد جنبلاط من هذا الجو الجديد الذي خلقه في نواح عديدة أهمها أنها أطفأت -إلى حد ما- نيران إمكان التقاتل الدرزي-الدرزي، وهذا ما كان جنبلاط يخشاه أكثر من أي شيء آخر. كذلك أصبح في وضع سياسي ممتاز، فهو اليوم يُنظر إليه كمنقذ لأنه استطاع أن يمسك عصا الأزمة من وسطها، لكن وضع جنبلاط هذا لن يدوم طويلاً، فهو اليوم على قاب قوسين أو أدنى من مفترق طريق حيث يتوجب عليه أن يختار أي طريق يسلك، وكل الدلائل والمؤشرات تثبت أن جنبلاط قد اختار طريقه منذ زمن بعيد، أليس هو القائل، في وقت لم يمرّ عليه الزمن، إنه جزء من المشروع الأميركي في المنطقة وليس في لبنان وحده؟!

إن المراهنة على تغيير موقف وليد جنبلاط هو نوع من أنواع الوهم وخداع الذات، إذا لم يكن الوهم بحد ذاته.

* كاتب لبناني

back to top