Ad

ثمة بنية نفسية مشتركة بين «القومي» الذي يترك لإسرائيل أن تستعمر روحه تحت قناع أنه يعمل من أجل تحرير الوطن، والديموقراطي الذي يستسلم وجدانه لاستبداد نظم مستبدة، والعلماني الذي ينزلق نحو موقف ديني وإطلاقي من الدين، فيترك لخصومه الدينيين أن يشكلوا وعيه.

لا يكاد يتحرر بعضنا من «المركزية الإسرائيلية» (تُراجع مقالة كاتب هذه السطور: من صنع إسرائيل؟ ومن هم عملاؤها؟ «الجريدة»، 10/2/2008) إلا كي يستسلم لمركزية الاستبداد، أي احتلال النظم المستبدة التي تحكمنا لأراضينا النفسية كافة. وكما أن التحرر من المركزية الإسرائيلية هو أول التحرر من إسرائيل، فإن أول التحرر من الاستبداد هو تحرير كامل ترابنا النفسي من حضوره الكلي. وكما ثمة فلسطينان (المقالة نفسها في «الجريدة»...)، ثمة أيضا تصوران ممكنان للديموقراطية. أولا، الديموقراطية كسند إيديولوجي لانشغالنا المفرط بالنظم التي تحكمنا، أو كغطاء لاحتلالها لنا؛ ثم الديموقراطية كتحرر نفسي وفكري من المركزية الاستبدادية وكل مركزية.

ذلك أن التمركز حول الاستبداد لا يعني أقل من استبداد النظام الاستبدادي وسبل مواجهته بنفوسنا. ولا نرى كيف يمكن للاستسلام لاستبداد فكرة، ولو كانت فكرة الاستبداد بالذات، أن يكون خطوة نحو التحرر من استبداد معاش.

على أن هناك محوراً ثالثا، غير إسرائيل وغير النظم المستبدة، تدور حوله الحياة النفسية والوجدانية والثقافية لبعض آخرين منا. إنه الدين و/أو الحركات الإسلامية. هنا أيضا ثمة ضرب من التمركز المفرط حول «عدو» يترك له أن يحتل كامل المساحة النفسية. وتوفر الفكرة العلمانية غطاءً لحجب هذا التثبُُّت الشديد.

ثمة بنية نفسية مشتركة؛ بين «القومي» الذي يترك لإسرائيل أن تستعمر روحه تحت قناع أنه يعمل من أجل تحرير الوطن المحتل من مستعمريه؛ وبين الديموقراطي الذي يستسلم وجدانه لاستبداد نظم مستبدة فعلاً لفرط انشغاله بمقاومة الاستبداد؛ وبين العلماني الذي ينزلق نحو موقف ديني وإطلاقي من الدين، فيترك لخصومه الدينيين أن يشكلوا وعيه لشدة ما ينشغل بمواجهتهم.

ويبدو لنا أن الأصل في هذه البنية الواحدية هو تكوين نفسي تاريخي أو بنية للشخصية لما تقم على فردية مستوية مستقلة الضمير، لكنها كذلك لم تعد تقليدية تقيم في العالم الذي أورثه إياه الآباء. هذا التكوين يحتاج إلى معنى جمعي يأتيه من خارجه كي ينضبط ويستقر. فالأمر يتعلق بفردية منقوصة، تسعى إلى استكمال كيانها باعتناق عقيدة أو مبدأ كلي.

ولعله ثمة هنا أصل نفسي للقابلية للاستعمار التي كان مالك بن نبي قد ردها قبل عقود إلى التأخر الثقافي والاجتماعي للعرب والمسلمين. ولا يفوت القارئ أن الفضيلة الأولى لمفهوم القابلية للاستعمار أنه يحول موطن التركيز إلى أوضاعنا وأنماط تفكيرنا واستجاباتنا بدل تركيزها على «خارج» ما، سواء كان الاستعمار، أو الاستبداد الذي نبرِّيء أنفسنا منه، أو التعصب الديني الذي نحسبنا متحررون منه.

وتكوين الفردية المنقوصة هذا من نتاج حداثتنا المنقوصة بدورها وغير المكتملة. لذلك فهو أيضا تكوين الناشط الإسلامي الحديث، خلافاً للمؤمن التقليدي. فالناشط هذا أيضا يحتاج إلى مبدأ مطلق، يشكل مركزاً نفسياً ووجودياً له (أستفيد هنا من مقالة بديعة لصالح بشير، فسر فيها شيوع الفتاوي بطلب نام من أفراد يعانون ضعف تشكل الضمير الفردي أو مما سماه «اتكالية ضميرية»، طلبهم على ما يوجه سلوكهم ويحدد خياراتهم. مقالته: الفتوى ومعضلة الفردية، «الحياة»، 18/11/2008).

علينا أن نتحوط على كل حال من مطابقة الحداثة «المكتملة» مع الفردية «المكتملة»، أقله لأن الاكتمال غير متحقق في أي مكان. ومعلوم على أية حال أن الإيديولوجيات التي تخدر الضمير أو تحل محله كانت حتى وقت قريب مزدهرة في الغرب، المثال المفترض للاكتمال، قدر ازدهارها لدينا أو أكثر.

وعند إمعان النظر في الأمر قد يتبدى لنا أنه يتعلق بنظام غير مستقر للشخصية أكثر مما بنقص أو عدم اكتمال. وهو أيضا يتعدى الشخصية الفردية إلى شخصية الحزب السياسي ونموذج المثقف، والمنظمة الدينية المعاصرة، والدولة ذاتها. في كل الأحوال ثمة تكميل للذات أو التماس لاستقرارها بالركون إلى إيديولوجية مطلقة دينية أو قومية، أو إلى حاكم شخص معصوم ومرفوع فوق المرتبة البشرية كما في غير دولة عربية. ولعلنا نلحظ أن «ضمير» الدولة، أي الدستور، أشد ضموراً بعدُ في بلادنا من ضمير الفرد. ولعل ضعف «ضمير» الحزب السياسي هو ما يدفعه ربما إلى التعويض بالالتصاق بإيديولوجية كلية، هادية مهدية. ونرجح أن تعصب المنظمة الدينية وعنفها متصل بوضع تاريخي للإسلام المعاصر يتسم بالبرانية والاستعراض وضعف المكون الضميري والروحي فيه.

في الأحوال جميعا تعرض «الشخصية» لدينا حاجة لافتة إلى محور ثابت تدور حوله، إلى معنى خارجي تستند إليه. ليس من الضروري، بالمقابل، أن تتخلى شخصية متحررة (طبيعية أو معنوية) عن معان أو مبادئ تؤمن بها، لكن علاقتها بمواثيق إيمانها تختلف حتماً: تمسي علاقة أكثر تعاقدية أو دستورية. لذلك «الطلاق» ممكن، وتأخذ أفكار الأفراد شكل آراء مفتوحة على التغير لا شكل مذاهب ثابتة، وتوجهات الأحزاب شكل رؤى اجتماعية وبرامج سياسية لا شكل إيديولوجيات كلية، وتعرض الدول سياسات ومواقف عقلانية تدور حول المصلحة الوطنية لا ثوابت وعقائد مطلقة. ولعلمنة الأفراد والدول والمنظمات السياسية على هذا النحو مفعول محرر. إذ أن نقد الرأي والبرنامج والرؤية والسياسة العقلانية ممكن ومأمون خلافاً لنقد «ثوابت» وعقائد ومقدسات ومذاهب كلية. هذا غير أن «الشخص» ينسحق تحت وطأة العقائد المقدسة المطلقة، فتجد أتباعها يشبهون بعضهم، كأنهم نسخ متناسخة من أصل واحد. فيما تتحرر الأذهان والأفكار حيث تزاح المقدسات عن السيادة الثقافية والسياسية، وإن اقترن التحرر هذا بالقلق واللايقين.

لا يبدو أن شيئاً من هذا ما يطبع علاقتنا بكل من إسرائيل والاستبداد والأصولية في مجتمعاتنا وثقافتنا المعاصرة. إذ يتسم سلوكنا في الحالات الثلاثة بنزوع نحو أبلسة الخصم وإخراج العلاقة معه كلياً من فضاء السياسة والتسوية إلى فضاء الإلغاء والحرب المطلقة. كما نخفق في تطوير سياسيات ناجعة ضد العدوانية الإسرائيلية أو الاستبداد الفاحش أو الحركات الأصولية والمتعصبة. فالسياسة تقتضي استقلالاً نفسياً نفتقر إليه في الحالات الثلاث، ولا يسعها أن تنتظم علاقة بين طرفين يتماهى أحدهما بالرحمن، مطابقاً خصمه مع الشيطان.

ولأن علاقتنا بالشياطين الثلاثة مطلقة وغير مقيدة فإنها تنقلب بيسر على نفسها. فبدل تركيز انتباهنا على سياسة إسرائيل وعدوانيتها ننزلق نحو مركزية إسرائيلية، تشغل إسرائيل موقع المبادر فيها بينا نشغل نحن موقع المنفعل الغافل. وبدل التنبه البصير و»الدستوري» إلى أحابيل الاستبداد، يقودنا التثبت النفسي عليه إلى الدوران حوله وإلى تطوير نموذج شخصية استبدادية من شانها أن تعيد إنتاجه إن حصل أن هزمته. وعوضاً عن تطوير وعي وتفكير متحررين يفضي بنا التثبت حول الدين إلى تطوير موقف ديني مقلوب منه ومن الحركات الدينية، الأمر الذي يعني أنه من وراء قناع علماني يترك زمام المبادرة للتفكير الديني ذاته، فيشكل العلمانيون الأكثر تشدداً نسخة طبق الأصل عن الإسلاميين الأشد انغلاقاً وتعصباً.

تستمد مقاربة أولية كهذه شرعيتها من انفتاحها المحتمل على نقد عقلاني وجذري معا لأنماط تفكيرنا وبنياتنا النفسية وهياكلنا السياسية وصيغ تديننا. ليس إنجاز ذلك بالأمر السهل، لكنه لا يتبدد إن أُنجز، ولا تقدم حقيقياً في ديارنا من دون إنجازه.

* كاتب سوري