بلا استثناء
في ظل الاستثناء، لا عجب ألا يُلقي بالاً إلى الثامن من مارس بمناسبتيه، فبعضهم يحتفل في الثامن من مارس بعيد دخل جديداً إلى مجتمعنا منذ سنوات قليلة، عيد المرأة، وبعضهم الآخر يجد من الأفضل انتظار مناسبات مارس اللاحقة، فهي أخف وطأة وأكثر مرحاً.
يحفل مارس بالمناسبات السعيدة منها والبائسة، في الحادي والعشرين منه نحتفل بعيد الأم، الذي أصبح مع الوقت عيداً لا يقل في طقوسه ومظاهره عن الأعياد الدينية، كالفطر والأضحى والميلاد المجيد. وفي اليوم نفسه، يحتفي مواطنونا الأكراد بعيد النيروز. مدينة القامشلي في هذا اليوم جمال خالص، وفي محيطها، أعمدة الدخان المتباعدة في المساحات الواسعة على مد النظر، تضفي على العيد سحراً خاصاً. وفي دمشق يخرج المواطنون الأكراد جماعات إلى الأماكن المخصصة للاحتفال وسط الطبيعة، مرتدين أزياءهم التقليدية، يعقدون حلقات الدبكة وينشدون أغاني الربيع. في مارس أيضاً، عيد المعلم، حيث يحرص التلاميذ على إهداء أساتذتهم في هذا اليوم ما يعبر عن حبهم وتقديرهم، أوما يكف عنهم «شر» أساتذتهم، إن لم يكنوا لهم حبا وتقديراً! في مارس السنوات الثلاث السابقة، استجدت مناسبة إحياء ذكرى أحداث مارس 2004 الأليمة في منطقة الجزيرة، والتي راح ضحيتها عشرات المواطنين الأكراد بين قتيل وجريح، وفيه أيضا ذكرى مجزرة حلبجة، التي يحييها أكراد سورية بمحاولات يائسة للوقوف دقيقة صمت على أرواح ضحايا المجزرة، تكون نتيجتها دائما مصادمات مع الأمن.لكن قبل هذا وذاك، فمارس هو شهر السلطة والمعارضة بامتياز. في الثامن منه، يحتفل رسميا بـ«الثورة» التي استلم حزب البعث بموجبها السلطة. تعلق اللافتات التي تمجد «الثورة» في الطرقات، وتقام المهرجانات الخطابية وحلقات الدبكة في بعض الدوائر الرسمية. في اليوم نفسه، تطلق أحزاب المعارضة والمنظمات الحقوقية الكم الأكبر من البيانات الصحفية، وتقام الاعتصامات والاحتجاجات في بعض الدول الأوروبية، بينما في الداخل، لا يتوقع أن يقام هذا العام أي نشاط احتجاجي في الشارع، نظراً للحملة الأمنية ضد قوى المعارضة. في الأعوام القليلة الماضية، نفذت تلك القوى اعتصامات رمزية في دمشق انتهت كلها «بعلقة» وتوقيفات ومساءلات أمنية. محور هذه الفعاليات هو ذكرى إعلان حالة الطوارئ المستديمة، منذ الثامن من مارس عام 1963. الإعلان الذي حمل في طياته المحاكم الاستثنائية والاعتقالات التعسفية والاختفاءات القسرية، وتعطيل الحياة السياسية وشرعنة الفساد والحجر على المجتمع.بين هؤلاء وأولئك، يقف أغلبية الناس في المنطقة الرمادية. لا هم يشاركون في الاحتفالات الرسمية، ولا في فعاليات القوى الديمقراطية. أغلبية الأجيال الجديدة، لا تعلم بالتحديد ماذا حصل في هذا اليوم، اللهم إلا باعتباره درساً في التربية القومية نسيت تفاصيله بعد تقديم الامتحان، وأكثر الناس، لا يعلمون عن قانون الطوارئ شيئا. هم مثقفون حقوقيا بحكم الأمر الواقع. الأمر الواقع يرسم حدود الكلام والسلوك. هم يصوغون وقائع ما يلحق بهم من غبن أو مظالم، بمفردات بسيطة وسلوكيات تلقائية. ولا يرهقون أعصابهم المرهقة أصلاً، بمناقشة المعايير الدولية لحقوق الإنسان وشروط إعلان حالة الطوارئ وسواها. فالاستثناء لا يعني فقط معارضة ومنظمات حقوقية ومعتقلين، بل يمتد ليتخذ أشكالا متنوعة ومختلفة، تحت ما يوفره من غطاء عدم المساءلة وانعدام الرقابة القضائية وانعدام استقلال القضاء وفساده... إلخ. وهو ما يمس في النهاية تفاصيل التفاصيل في حياتهم اليومية. وهم إذا أرادوا الحديث عن واقعهم الاستثنائي، يقولون «في كل بلدان العالم يقومون بكذا وكذا، إلا عندنا». وهذه الـ«إلا»، هي التعبير المبسط عن أوضاع معاشة غير سوية وغير طبيعية. حتى أنهم اخترعوا قاموسا خاصاً لمفردات الاستثناء المبسطة، فإذا أرادوا مثلاً الحديث عن شخص اعتقل، قالوا «أخذوه»، وضمير الفاعل يعود على مجهول. وإذا تحدثوا عن الفساد والمفسدين، استخدموا أكثر صيغ اللغة العربية تمويهاً، حتى لتسجل الواقعة في النهاية ضد مجهول!في مقدمة كتابه «نظام الطوارئ والأحكام العرفية» الصادر منذ أكثر من ثلاثة عقود، يصف الدكتور عبد الإله الخاني بعضاً من آثار إعلان حالة الطوارئ خصوصاً إذا امتدت أوقاتاً طويلة، فهي «تخدر الشعور بالحرية وتحد من ملكات الكسب والكشف وتوسيع النشاطات وتهب المؤقت دواما نسبياً يحد من كل تنظيم ذي طبيعة دائمة مستمرة... وهي عبء ثقيل على الإدارة والمواطن على السواء، ترهقهما معا... وهي ترهق أعصاب المواطنين فتجعلهم متوقعين على الدوام للمفاجآت... وفي حالة الطوارئ، يضعف الحس الاجتماعي ويغدو الفرد فردياً أكثر من اللازم».ولما كانت هذه الأوصاف ليست إلا جزءاً صغيراً مما آلت إليه حال المجتمع السوري في ظل الاستثناء، فلا عجب ألا يلقي بالاً إلى الثامن من مارس بمناسبتيه، فبعضهم يحتفل في الثامن من مارس بعيد دخل جديداً إلى مجتمعنا منذ سنوات قليلة، عيد المرأة، وبعضهم الآخر يجد من الأفضل انتظار مناسبات مارس اللاحقة، فهي أخف وطأة وأكثر مرحاً، ليس ذلك بلا استثناء بطبيعة الحال.* كاتبة سورية