Ad

إن البلدين السعودية وقطر قد توصلا، ومن خلال الخبرة المشتركة لمرحلة الجفاء إلى ضرورة تأسيس علاقات سياسية جديدة، وليس مجرد تعزيز العلاقات التقليدية القائمة، بل الارتقاء بها وتفعيلها في كل مجالات التعاون السياسي والاقتصادي والأمني بين البلدين.

شكلت زيارة الأمير سلطان بن عبدالعزيز، ولي العهد السعودي، إلى قطر انعطافة (استثنائية) حسب تعبير الصحف القطرية، في تاريخ العلاقات بين البلدين، وهي الحدث الأبرز والأهم في الساحة الخليجية، سواء لجهة تطبيع العلاقات القطرية - السعودية وعودة مياه الأخوة والمودة الى مجاريها أو لجهة تفعيل متطلبات قيام السوق الخليجية المشتركة وترجمة مبدأ (المواطنة) الخليجية على أرض الواقع، ومن ثم تعزيز العمل الخليجي المشترك وتقوية البيت الخليجي أو لجهة تدعيم الصف العربي في مواجهة التحديات المحيطة بالمنطقة.

جاءت هذه الزيارة في وقتها، وكانت ضرورية لتصفية كل الرواسب السلبية وعوامل التوتر التي شابت العلاقات التاريخية بين البلدين، تلك العلاقات التي كانت تشكل نموذجا، للعلاقات بين بلدين شقيقين وشعبين جمعت بينهما أواصر القربى والتاريخ والمصالح المشتركة والمذهب الواحد.

وحتى نستوعب هذه الزيارة الودية وتأثيرها في إزالة الرواسب العالقة علينا استحضار الحالة السلبية السابقة وانعكاساتها الضارة ليس على المجالات السياسية والاقتصادية في البلدين فحسب، بل شكلت صراعا مزمنا معوقا لمجمل العمل الخليجي المشترك، وامتد ليصبح عامل تأزم في مواقف البلدين تجاه كل القضايا العربية والاقليمية والدولية. لكن هذه الزيارة ما كانت لتتم ولتحقق أهدافها المرجوة لولا الجهود الحثيثة والصادقة من قبل القيادتين القطرية والسعودية وعلى امتداد سنة لاحتواء حالة الجفاء والتسامي فوق الخلافات الطارئة. وللتاريخ فإن أمير دولة قطر الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني هو صاحب المبادرة الأولى في حل هذا الخلاف بزيارته لأخيه خادم الحرمين الشريفين ثم تتابعت لقاءات القمة وأعقبتها زيارات متبادلة لكبار المسؤولين في البلدين وتعززت تلك الجهود بحضور خادم الحرمين الشريفين قمة الدوحة الأخيرة.

هذه التطورات الايجابية في العلاقات بين البلدين لم تكن لتثمر وتحقق نتائجها لولا الرغبة الصادقة من قبل القيادتين في تجاوز مرحلة الجمود والجفاء. ولقد ظن بعض المراقبين أن هدف قطر في مبادرتها لرأب الصدع وتجاوز الخلافات، هدف مرحلي (تكتيكي) مؤقت لضمان حضور خادم الحرمين الشريفين قمة الدوحة باعتبارها الدولة المضيفة ويهمها نجاح القمة بحضور خادم الحرمين الشريفين، لكن التطورات اللاحقة بددت تلك الظنون وبرهنت أن البلدين توصلا الى قناعة حقيقية ومشتركة في ضرورة طي صفحة الماضي وفتح صفحة جديدة، وكان من مؤشرات تلك التطورات الايجابية أن «الجزيرة» التي كانت أحد عوامل التأزيم التزمت موقفا إيجابيا من السعودية أخيرا، ثم جاءت عودة السفير السعودي (الجديد) بعد انقطاع طويل الى مقر عمله، وأعقبتها الزيارة الكريمة للأمير سلطان لتؤكد عودة العلاقات إلى طبيعتها.

الآن دعونا نتساءل: ما الاهداف المقصودة من هذه الزيارة؟ وما النتائج المتوقعة منها؟

في تصوري أن البلدين قد توصلا ومن خلال الخبرة المشتركة لمرحلة الجفاء الى ضرورة تأسيس علاقات سياسية جديدة، وليس مجرد تعزيز العلاقات التقليدية القائمة، بل الارتقاء بها وتفعيلها في كل مجالات التعاون السياسي والاقتصادي والأمني بين البلدين، كما قال الشيخ حمد بن جاسم رئيس مجلس الوزراء القطري، وزير الخارجية، أمام رؤساء تحرير الصحف السعودية (ليس تعزيز العلاقات فقط، بل تفعليها في أكثر من مجال، سياسياً واقتصاديا، وتنسيقا أمنيا، لدينا ازدهار في قطر ومثله في السعودية، وبسبب التوتر الماضي لم يستفد الطرفان منه).

وأضاف «إن العلاقات موجودة أصلا ونرغب في تفعيلها وتطويرها أكثر سواء في المجال الاقتصادي أو التنسيق السياسي والأمني».

ومن هذا المنطلق أتصور أن الأهداف والنتائج المرجوة من الزيارة هي:

1 - تطبيع سياسي جديد للعلاقات بين البلدين أو بتعيير آخر، إقامة علاقات سياسية صحية وناضجة تستوعب المتغيرات والتحولات الحاصلة في البلدين وتستجيب لاحتياجات المجتمعين والدولتين وتتفهم طبيعة الأوضاع والعلاقات السياسية والاقتصادية، وكذلك التحالفات والمعاهدات الدفاعية والأمنية التي تربط كل بلد بالدول الأخرى. فالمطلوب في عالم اليوم تجاوز مرحلة العلاقات التقليدية السائدة التي تضيق بالاجتهادات والرؤى المغايرة في أساليب التعاطي مع القضايا العربية والإقليمية والدولية. نعم من الضروري تأكيد التزام الجميع بالثوابت الخليجية والقومية في الأمن والهوية والسيادة الوطنية والوجود والدفاع وهي تشكل خطا أحمر لا يجوز المساس به بأي حال من الأحوال ولكن في الوقت نفسه يجب التسامح في حرية حركة أي دولة خليجية في تصور أسلوب تعاملها مع القضايا الخارجية، إذ لا يمكن في هذه القضايا حصول (تطابق) في الرؤى أو في أسلوب المعالجة وذلك ليس مطلوباًً، بل إنه قد لا يخدم الهدف المشترك. ما الذي يضير الإخوة الأشقاء أن تحتفظ قطر بعلاقات طيبة مع كل الأطراف، وأن تكون على مقربة من الجميع حتى عمن نكرهه أو نعاديه؟ لماذا لا يكون ذلك عاملا إيجابيا يصب في مصلحة الجميع في النهاية؟ لنلتزم بالثوابت والأساسيات الخليجية والوطنية والقومية ولنختلف في تطوراتنا واجتهاداتنا السياسية في كل القضايا الأخرى، وليقبل بعضنا بعضا على ما هو عليه، فذلك هو الأمر الطبيعي والمستمر سواء على مستوى الأفراد أو الدول ولا خوف من ذلك ولا ضرر يلحق بالبيت الخليجي الواحد، ولكن المهم أولا وأخيرا ودائما أمران: ضرورة التفاهم والتنسيق في القضايا الخلافية وأيضا وهو الأهم: حسن إدارة هذا الاختلاف وتوظيفه لخدمة المصلحة المشتركة. وعندنا نموذج ناجح (الاتحاد الاوروبي) لقد تجاوزنا تلك المرحلة التي يود فيها الأخ الأكبر أو أحد الإخوة (ترشيد) سلوكيات أحد إخوانه، فدول اليوم تحكمها مصالحها بأكثر من وشائج قربى أو شعارات ولّى زمانها ولم تنفع دعاتها في يوم من الأيام. التنسيق مطلوب والتفاهم ضروري، لكن لا حجر على حرية الحركة وتنوع الرؤى والاجتهادات السياسية في إطار الثوابت الاستراتيجية، ويبدو أن قطر نجحت في إقناع القيادة السعودية بأن اسلوب تعاطيها مع القضايا الخارجية وإن كان مختلفا إلا أنه ليس بالضرورة ضد مصالحها إذا تحقق تفاهم مسبق.

2 - تطبيع اقتصادي شامل لكل مجالات التعاون الاقتصادي، ويبدو أن هناك مستقبلا واعدا للعلاقات الاقتصادية القطرية السعودية بما يعزز التكامل الاقتصادي بينهما، وهناك آفاق واسعة لإقامة مشاريع مشتركة تقوم على الغاز القطري وإنتاج الكهرباء، وكما يقول عبدالعزيز بن عثمان بن صقر - رئيس مركز الخليج للأبحاث- إن إنتاج الكهرباء باستخدام الغاز القطري وتصديره عبر السعودية ليس إلى دول الخليج التي تزداد احتياجاتها إلى الكهرباء بما يزيد على %7 سنويا وحسب ولكن -أيضاً- إلى دول الجوار التي تعاني حاجة ماسة إلى الكهرباء مثل العراق، إضافة إلى أن الغاز الطبيعي هو المصدر الرئيسي للطاقة في عمليات توسيع الصناعات البترولية وهناك مشروع الجسر الذي يربط قطر بالإمارات عبر السعودية، وهو يوفر الكثير من المسافة والكلفة، وهناك تصدير الغاز القطري عبر السعودية وهو يحقق مصلحة مشتركة ويفتح آفاقا للتعاون، كما أن هذا التعاون سيفتح مزيداً من فرص العمل أمام الشباب، وقد نشرت الصحف القطرية أن قطر تستقطب كفاءات سعودية من الجنسين براوتب عالية، وأن هناك (3) آلاف سعودي يعملون في قطر، والعدد مرشح للزيادة لكن يلاحظ غياب شركات المقاولات السعودية الكبرى عن السوق القطري، وغياب الاستثمارات القطرية عن السوق السعودي، ولعل زيارة الأمير سلطان بادرة انفراج اقتصادي ضخم يعود بالنفع على البلدين.

أخيرا ما دور المثقفين والإعلاميين في الجانبين في تعزيز وتطوير هذه العلاقات؟ كتب جمال خاشقجي إن القطري يشعر باطمئنان أكبر عندما يرى العلاقات تتطور وتنمو مع الجارة الكبرى، وهذا صحيح أيضا بالنسبة للسعودي، ومن هنا واجب المثقفين والكتاب والإعلاميين بصفة خاصة الإفادة من دروس المرحلة السابقة بما ينمي ويطور هذه العلاقات وتجنب التحليلات التي ساعدت على سوء الفهم سابقا.

* كاتب قطري- بالاتفاق مع «الوطن» القطرية