السيرة الذاتية لطائر الصحراء - 13
حينما أصبح ناجي العلي -عمي- وأصبحت أنا عمه حسب ميثاق المحبة الذي ربط بيننا، كنا نخرج في أوقات الفراغ للتسكع في الشوارع الخلفية للكويت، إذ أزور بعض أصدقائي الصعاليك، وهم يسكنون في المرقاب القديم أو (الدمنة) التي أصبحت السالمية، أو نذهب إلى الضواحي القصية حيث «العباسية»
و«الدوغة» وجليب الشيوخ وعشيش الشدادية والجهراء القديمة ذات النخيل. وكان أغلب أصدقائي من الكهول وأصحاب النظريات العجيبة في الحياة والمهمشين الذين يلعنون الحياة بأشعارهم الساخرة، والمهربين الذين «تابوا» عن التهريب، فأصبحوا كما يقولون «كالنسور المقعدة»، والذين يروون حكايات لا نملُّ من سماعها حتى يتلاشى الليل والبداة الذين يحرجون «ناجي» بولاءاتهم الفادحة. أما هو فكان أغلب أصدقائه من الفلسطينيين البسطاء الذين لا يعرفون المبالغة أو الادعاء، والذين يحبون الكويت مثلما يحبون فلسطين لأنهم نشؤوا وترعرعوا فيها، وأصبحت وطنهم الثاني الذي لا بديل عنه. تماماً كما قالت لي ذات مرة السيدة «أم العبد» القريوتي التي تقيم في حولي، إذ روت لي كيف ان الإسرائيليين لما اجتاحوا المخيم وفرزوا الرجال عن النساء ثم أخذوا يفرزون الشباب عن الكهول وفرزوا ناجي بأنه من الكهول نظراً الى شعره الأشيب وظهره المحدودب، وأطلقوا سراحه لأنه حسب رؤيتهم من الكهول، تقول أم العبد فلتت زغرودة مني ولم يفهم الضابط الإسرائيلي معنى «زغرودتي الوطنية» حتى الآن، وذلك لأن ناجي العلي هو رمز فلسطين ثم أدارت علينا البخور وقالت يحرسكم الله. بعد ذلك قدمت لنا أم العبد القريوتي طبقاً ساخناً من «المسخن الفلسطيني» و«طنجرة» كاملة من الملوخية الفلسطينية اليانعة المشغولة بالثوم والليمون وزيتون فلسطين الأصيل. استرحنا قليلا عند «أم العبد»، ثم ذهبنا نتسكع بالفروانية حيث اكتظاظ الفلسطينيين مثلما اكتظاظهم في نواحي الكويت، وفي مدخل الفروانية وعند الإشارة اعترضت سيارتنا أنا وناجي سيارة صغيرة يقودها رجل ذو شعر كثيف، فاضطربت كثيرا وحاولت أن أتشاجر معه «لأنني في تلك الأيام كنت على استعداد أن أشاجر حتى الهواء»، ولكن ناجي أمسكني من يدي وقال لي لعله «علي جرار» أتعرف علي جرار؟!»، قلت أعرف أنه من رجال الإعلان التافهين الذين يشتغلون في جريدة السياسة. قال لي ناجي «لأ، بل الحقه واستوقفه، وستعرف تماماً من هو علي جرار.. لحقت علي ثم «صفطت» أمامه ونزل لي كالأسد الهصور، وأشهر سكيناً في وجهي، ثم قال «انزلا، يازمرة «الأوباش» الحقيرين، واتجها إلى شقتي فأنا «أعزمكما» رغما عنكما (!)، ثم لماذا تمارسان كالصبية الجاهلين مشاغبة «السابلة»؟ ولماذا تطوفان الإشارة كالبداة الهمجيين». أوقفنا علي بمدخل شقة في الفروانية ودعانا إلى العشاء الذي أعدته أمه العجوز، ثم قال لها «يا ختيارة هؤلاء أصحابي ناجي العلي الفلسطيني وسليمان الفليح البدوي». منذ ذلك الزمان أحسست أنني أنتمي بشعري ومواقفي إلى فلسطين بفضل علاقتي بناجي العلي، مثلما أنتمي بشعري ومواقفي إلى الكويت بفضل علاقتي بسليمان الفهد؛ ولذلك أصبحت منذ تلكما العلاقتين الراسختين «وطنياً لم يساوم على وطنيته من أجل الكويت»، و«عروبياً لا يساوم على عروبته من أجل فلسطين»، وبالطبع في ذلك الزمان كنت معجباً بشكل خاص بنضال عبدالعزيز بن عبدالرحمن في قيام أول وحدة حقيقية على أرض العرب، وكيف أنه انتزع السيوف من أكف القبائل المتغطرسة التي لا تؤمن إلا بالغزوات، وأقام هجراتها الثابتة، وفرض الأمن والسلام في ربوع الجزيرة العربية، وأقام مملكته الموحدة الرائعة. بالطبع ليس هذا مديحا أرتجي منه المنفعة والمصلحة بل هو قناعتي الراسخة بكل ما فعله المؤسس العظيم والموحد الذي ضمّ هذا الكيان العظيم ليجعله وطناً واحداً ومملكة واحدة. لم يكن ناجي يوافقني على قناعاتي كلها بل كان «ينسفها»، ثم يزمجر مثل «فحل الجمال» في أولات السفاد، ثم يعود إلى ريشته ليرسم «أهل الخليج بكروشهم المندلقة». غضبت على ناجي، وقلت له ذات مرة إننا لن نلتقي، فلست عمي أنت ولست عمك أنا كما اتفقنا؛ لأنك تسخر من أصدقائنا «المتكرشين» الذين يمدون ثورتك بالمال أو بالرجال، وهؤلاء يا ناجي العلي «أعمامنا». ضحك أبو خالد حتى بانت نواجذه ثم صعّد بالموّال «أحلى أعمامي في الكويت أعمامنا» أيرضيك ذلك؟