هل يعيد التاريخ نفسه؟
تأتي محاولة الغزو الفاشلة التي نفذتها المخابرات المركزية الأميركية على «خليج الخنازير» داخل كوبا في هذه اللحظة من التاريخ، لتضعنا بالذات بعد الحالة المستعصية في العراق، أمام وضع يلزمنا إعادة النظر في فهمنا لمعنى القوة وحدودها.
من غير المؤكد أن البشر يتعلمون من التاريخ، ولكن من المؤكد أن التاريخ لا يكرر نفسه، كما أنه من المؤكد أن هناك استعداداً لارتكاب الأخطاء ذاتها.ربما كانت محاولة الغزو الفاشلة التي نفذتها المخابرات المركزية الأميركية على «خليج الخنازير» في كوبا واحدة من أبرز وأهم السقطات التي وقعت فيها الحكومة الأميركية في تاريخها، بل إنها تأتي في هذه اللحظة من التاريخ، لتضعنا بالذات بعد الحالة المستعصية في العراق، أمام وضع يلزمنا إعادة النظر في فهمنا لمعنى القوة وحدودها. فكوبا على أية حال لا تبعد أكثر من 90 ميلاً عن السواحل الأميركية، ومع ذلك فلم تتمكن تلك القوة الماحقة المتوافرة لدى الولايات المتحدة من حسم المعركة، بل نتج عن ذلك الغزو الفاشل أن تعرَّض أكثر رؤساء الولايات المتحدة الأميركية جاذبية ووسامة وكاريزمية كجون إف كيندي إلى حالة من الإحراج الدولي لم تحدث لرئيس قبله أو بعده. ولربما كان ذلك الفشل دافعاً له للتمهل والحذر من الاندفاع في التصدي لقيام السوفييت بزرع ونصب منظومة صواريخ نووية على الأراضي الكوبية، التي تحدث عنها الرئيس الروسي، مذكراً الغرب بها قبل 4 أيام فقط. وكان الذي يفصل العالم عن الحرب النووية دقائق، بل تؤكد بعض الوثائق الأميركية التي أفرج عنها أخيراً أنها ربما كانت أقل من ذلك. ولعل محاولة الغزو الفاشلة تلك كانت مترابطة مع أزمة الصواريخ الكوبية ترابطاً عضوياً. ولا يبدو أن ذلك الغزو جاء في فراغ أو بلا سياق، بل بدا أن الولايات المتحدة نظرت الى أميركا اللاتينية كحديقة خلفية لها، وأنه صار واجباً عليها تطهير تلك المنطقة برمتها من الخطر اليساري أو حتى الوطني. وهكذا عندما نجح فيدل كاسترو ورفيقه الأرجنتيني تشي غيفارا في إسقاط نظام باتيستا في كوبا عام 1959، ولم يكن قد أصبح شيوعياً بعد، سرعان ما رأت فيه الإدارة الأميركية خطراً عليها، ما دفع الرئيس دوايت أيزنهاور إلى الموافقة على تجهيزه وتدريب عدد من اللاجئين الكوبيين بالسلاح لإزاحة كاسترو. كان ذلك استنادا إلى مقترح من وكالة الاستخبارات المركزية «سي. آي. إيه» وتم اعتماد الخطة في مارس 1960. وتؤكد الوثائق أن العنصر الدافع وراء الغزو كان نائب الرئيس ريتشارد نيكسون وقد قامت «سي آي إيه» بتدريب عناصر الغزو في غواتيمالا. كما تؤكد كذلك أن الوكالة كانت واثقة من نجاح مخططها، حيث كانت واثقة في خبراتها التاريخية الناجحة في إسقاط الحكومات كخطتها في إسقاط محمد مصدق في إيران عام 1953، والرئيس الغواتيمالي جاكوب جوزمان عام 1954. وهكذا تم إعداد اللواء رقم 2506 المكون من الكوبيين في الخارج وخلال عام 1960 جرى تدريبهم على الإنزال في جنوب فلوريدا وعلى شواطئ غواتيمالا على أساس أن يتم الانزال في منطقة سانكتي سبيرتيوس نحو 400 كلم جنوب شرق هافانا العاصمة.وقد تم اختيار المنطقة على أساس أن غالبية سكانها يعارضون كاسترو، كما أن الطبيعة الجبلية لها ستساعد على تكوين قواعد لحرب عصابات. وقد جرى تغيير أماكن الإنزال لاحقاً عندما جاء جون كيندي للحكم وأقر خطة الغزو.وعلى أية حال ففي 15 أبريل 1961 بدأت 3 طائرات أميركية مقاتلة من نوع «بي 26 بي» بقصف مواقع كوبية مختلفة مدة 48 ساعة بهدف القضاء على المقاومة والقدرة الجوية الكوبية لكي تتم عملية الإنزال في «خليج الخنازير» من دون مقاومة. وقد فشلت المرحلة الأولى من ذلك لأنها لم تستمر كما تم إلغاء المرحلة الثانية من القصف الجوي. وفي 17 أبريل قامت 4 طائرات أميركية ضخمة بنقل 1500 لاجئ كوبي مدرب ومعهم اسناد من الـ«سي آي إيه». وقد راهن الغزاة على دعم الكوبيين لهم في مهمتهم. وقد ظنت «سي آي إيه» أن الغزو سيحدث انتفاضة شعبية ضد كاسترو، ولكن ذلك لم يحدث.وبعد معركة طاحنة أبلى فيها المقاومون الكوبيون بلاءً منقطع النظير قُتل العشرات من الغزاة وألقي القبض على البقية (نحو 1200) وتمت محاكمتهم علناً، حيث أعدم عدد قليل وتم الافراج عن البقية مقابل ما قيمته 53 مليون دولار من المواد الغذائية والدوائية دفعتها الولايات المتحدة في ديسمبر 1962، وقد أدى فشل الغزو إلى إحراج الرئيس كيندي مما أدى إلى إرغامه مدير «سي آي إيه»، ألن دولس ونائبيه على الاستقالة.وقد أرسل تشي غيفارا رسالة إلى الرئيس كيندي في أغسطس 1961 تعليقاً على فشل غزو (خليج الخنازير): «شكراً على بلايا جيرون (مكان المعركة). فقبل الغزو كانت الثورة ضعيفة، أما الآن فإنها أقوى من أي وقت مضى».وها نحن في القرن الـ21، بعد أفغانستان والعراق وفلسطين وربما إيران، كم يتعلّم البشر من التاريخ، وكم يصرون على ارتكاب الأخطاء نفسها...