استراتيجية بديلة للنصر في الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي 6 وأخيرة

نشر في 27-01-2008
آخر تحديث 27-01-2008 | 00:00
 د. محمد السيد سعيد

يجب أن تمر فلسطين بتجربة بناء مستقلة تنجح فيها في تذويب الفوراق الحضارية والمعرفية والتنظيمية بين المجتمعين حتى تبدأ عملية حوار ندية تنتهي إلى كسب أغلبية من أنصار فكرة الدولة الواحدة العادلة لجميع مواطنيها من غير أدنى حاجة إلى نفي التنوع.

كيف تعمل الاستراتيجية المقترحة؟

لنتصور الآن الطريقة التي قد تعمل بها استراتيجية بديلة للنصر في الصراع العربي الاسرائيلي: الخطوة الأولى هي بالطبع استعادة الأرض المحتلة في يونيو عام 1967 ثم بناء دولة فلسطينية ذات سيادة ومعترف بها دوليا، ومع توقيع الاتفاق حول تسوية سياسية تبدأ على الفور عملية تدشين الاستراتيجية البديلة وإطلاقها.

تحدثنا عن ثلاثة مجالات لهذه الاستراتيجية: أولها هو بناء المؤسسات القادرة على استكمال عملية صنع الأمة، ولو تركنا مؤقتا شتى التعقيدات الخاصة بالانتقال، فجوهر هذه العملية هو بناء تجربة سياسية فلسطينية ديموقراطية وأصيلة معاً. وعلى عكس ما تم بالفعل منذ 1996 يجب أن تتكون مؤسسات دولة ذكية وخفيفة الحركة وفعالة لا تتعامل بالضرورة مع أفراد مثلما يدعو النموذج الليبرالي الأميركي إنما مع مؤسسات المجتمع الموروثة والمستحدثة لتصنع أطراً متعددة ومتناسقة للمشاركة والرقابة السياسية.

وبدلاً من توظيف العشائرية لتعزيز سلطة بيروقراطية عسكرية نتصور أن العشائر يمكن أن تعزز تكوين مجتمع مستقل ذاتياً عن الدولة وقادر على التفاوض معها لتحقيق التناسق والتوازن معاً، حيث المجتمع الأهلي غير منفصم عن المجتمع السياسي أو الدولة، وحيث تتكون علاقة صحية بين المستويين.

وفي كل المجتمعات التي صنعت تجربة سياسية أصيلة احتاج الأمر إلى استنباط صياغات عبقرية لإطلاق عملية بناء مستحدثة تستخلص جانباً من شرعيتها وعناصرها من التاريخ الثقافي والاجتماعي وربما السياسي الخاص بكل أمة مع شيء من الخيال والابتكار الذي تحتمه ضرورات الانطلاق السياسي والنهوض الوطني عامة.

المهم أن الشعب الفلسطيني يحتاج بشدة إلى مؤسسات كفؤة وقادرة على نظم حركته في مختلف المجالات. ويبدو لي أن إنجاز هذه العملية أهم بمئة مرة من توافر العناصر الشكلية للدولة القانونية مثل الاعتراف الدولي. لقد تغيرت طبيعة الأدوار التي تقوم بها الدولة وسيتعزز هذا التغير في المستقبل، ففي الماضى كانت السيطرة على الأرض من جانب حكومة تنفرد بالسلطان أمراً حاسماً، واهتمت الحركة الوطنية الفلسطينية بالاعتراف الدولي اهتماماً كبيراً وحصلت عليه من دون أن يمنحها ذلك قوة الدفع اللازمة للانطلاق السياسي. أما في الوقت الحالي وبصورة أكبر في المستقبل فإن قدرة جهاز الدولة على قيادة المجتمع وضمان تناسق حركته وتخطيط هذه الحركة بما يؤدي إلى نتائج منتظرة هي العامل الحاسم.

بل يمكن حتى في ظروف الاحتلال استنباط نسق من المؤسسات القادرة على قيادة المجتمع الفلسطيني ومنحه إحساساً قوياً بالاتجاه من خلال الفعل التخطيطي والقيادي.

ويحتاج الأمر كما هو واضح تماماً إلى مزيد من التفكير الخلاق، ولاشك أن الكثيرين سيعترضون تماماً على هذا التفكير لأنه يبدو لهم مثالياً أو بعيداً جداً عن الواقع. فالشك في قدرة الفلسطينيين على إنتاج بنية مؤسسية مقتدرة عميقة للغاية، ومع ذلك فلدينا تجارب خلاقة جدا، ويجب أن نخوض حوارات مكثفة وواسعة النطاق جدا لوضع تصور مشترك حول طبيعة عملية بناء الأمة والشبكة المؤسسية الرسمية وغير الرسمية التي يحتاجها النصر ضد الصهيونية.

ما النصر؟

نتحدث هنا عن النصر لأنه يتضمن بصورة محددة للغاية إفشال السياسات الإسرائيلية الرامية إلى تفكيك بنية المجتمع الفلسطيني ودفعه نحو التصدع ثم الذوبان الفعلي في منظومة الهيمنة الاقتصادية الإسرائيلية.

نريد من الناس في بلادنا أن يتفهّموا حقيقة أن النصر والهزيمة هما عمليتان اجتماعيتان، فالتفكك هو تمهيد للهزيمة والتماسك الاجتماعي هو شرط الصمود والنصر، وفي نهاية المطاف من يتفكك ويفقد تماسكه وانسجامه يهزم حتى لو توافرت لديه أسلحة الدنيا والعكس صحيح أيضا، وهذا هو ما فهمته إسرائيل تماماً، إن هدفها هو دفع المجتمع الفلسطيني إلى التفكك، والعكس فإن الهدف الاستراتيجي الفلسطيني الذي يضمن النصر هو دفع المجتمع الإسرائيلي إلى الإفلات من الهيمنة الإيديولوجية للصهيونية وإثبات إمكان بل تفوق التعايش مع الأغيار مقارنة مع المفاهيم العنصرية للصهيونية.

ومن أجل النصر لابد من ضمان قدرة مؤسسات المجتمع الفلسطيني بما في ذلك دولته الفعلية على الصمود ثم الانطلاق من هذا الصمود لضمان إطلاق تجربة سياسية متفوقة وقادرة على التعامل مع إسرائيل بندية واقتدار. وهذا هو معنى الانتصار في الصراع ضد الصهيونية كما أراه.

إن تكوين بنية مؤسسية رسمية فلسطينية مقتدرة هو شرط أساسي لإنجاز المهمات الضرورية في المجال الثقافي والمعرفي، وقد أشرنا إلى بعض هذه المهمات: تكوين جامعات ومعاهد عالية في مجالات مختارة تكون مصممة لتحقيق اختراقات مهمة في المعارف الفلسفية والرياضيات وبعض العلوم المختارة والتكنولوجيات الحديثة خصوصاً المعلوماتية، حيث يمكن للفلسطينيين التفوق بوضوح على إسرائيل بالمعيار الاقتصادي الصرف.

ويجب أن يكون لعملية البعث العلمية والمعرفية هذه صلة قوية بالدين وأن تمثل فلسطين بهذا المعنى همزة الوصل بين الإسلام والمسيحية وأن تستهدف بناء الجسور بين أنصار المعرفة الوضعية وأنصار المعرفة الدينية.

المال والاقتصاد

أما المجال الثالث فهو يتعلق بالجانب الاقتصادي والتكنولوجي، وهنا أيضا نطلب نوعاً من الهندسة المعاكسة لما تم بالفعل، إذ كان لدى الفلسطينيين جميع العناصر الضرورية لبناء نظام مالي وطني يضمن قدراً كبيراً من الاستقلال الحركي لمنظمة التحرير، وليس للمجتمع الفلسطيني تحت الاحتلال. لكن طريقة توظيف هذا النظام انتهت لخصخصته وإهداره، والآن يجب البدء بوضع نظام مالي يضمن لفلسطين توفير طاقة أولية للانطلاق في تحديث الاقتصاد ووضع سياسات اقتصادية سليمة وخوص تجربة خلاقة في البناء الاقتصادي.

وهنا أيضا تتعرض الاستراتيجية المقترحة لشكوك كبيرة، فالاقتصاد الفلسطيني كسيح فعليا، ومع ذلك فإن قدراته الاحتمالية والبشرية كبيرة جداً بل تؤهله لمنافسة إسرائيل في غضون أربع أو خمس خطط خمسية، وأعتقد أن استعادة الخبرات الفلسطينية في «الدياسبورا» وإمدادها بشتى صور الدعم والتشجيع يكفي لتدشين تجربة اقتصادية فلسطينية خلاقة، ويحتاج الأمر بالطبع إلى مزيد من النقاش حتى يمكن ضمان أفضل تشكيلة تخطيطية لاقتصاد فلسطيني قادر على ضمان النمو والصمود والاستقلال النسبي للمجتمع.

من الاستقلال إلى الدولة الواحدة

وفي مواجهة هذه الشكوك نعتقد أن وضع خطط لانطلاق تجربة اقتصادية فلسطينية خلاقة وقوية هي البداية السليمة، فكما أشرنا يحتاج الصمود الفلسطيني قبل كل شيء إلى قاعدة اقتصادية، ويجب توفير الأطر السياسية الدولية والإقليمية المواتية لهذه الضرورة.

وفي سياق عملية الانطلاق تتعزز التجربة الاقتصادية التي ندعو إليها بالمهمات المطروحة في المجال الثقافي والمعرفي، وبينما لهذا المجال الأخير استقلاليته فقد صار أيضا القاطرة التي تشد الاقتصاد إلى الأمام.

أما عملية البناء السياسي فهي أهم معطيات الاستراتيجية في كل المراحل، ومع ذلك فهي الأقل ضماناً نظراً لأن جانباً أساسياً منها يتعلق بالتفاوض مع إسرائيل والنظام العالمي لوضع حل سلمي عادل أو على الأقل منح الشعب الفلسطيني الحد الأدنى من حقوقه السياسية. ويقوم الرهان على نجاح هذا التصور على حوار فلسطيني وعربي ودولي متصل وبناء حد أدنى من التراضي الوطني الفلسطيني وعلى عملية إسناد عربية ودولية كافية لإجبار إسرائيل على القبول بالتصور العربي للسلام.

إن الهدف الأساسي لبناء تجربة اقتصادية وسياسية وثقافية أصيلة في الأرض المحتلة حاليا ليس مجرد تقريب أو تذويب مسافة التقدم بين الفلسطينيين وإسرائيل بل الأهم هو تمكين المجتمع الفلسطيني من امتلاك صورة للتقدم يمكن من خلالها دعوة اليهود للقبول بصيغة دولة ديموقراطية علمانية على كل أرض فلسطين.

وتواجه هذه الصيغة مشكلات كثيرة في الوقت الحالي، فمن وجهة النظر الإسرائيلية يعد القبول بهذه بصيغة الدولة العلمانية هزيمة حقيقية للمشروع الصهيوني لأنه يلغي فكرة «الدولة اليهودية». ولكن من وجهة النظر الفلسطينية فلن تعد هذه الفكرة انتصارا حقيقيا إلا إذا ارتبطت بامتلاك صورة للتقدم تغري وتبهر جميع الشعوب، ويجب أن يكون للفلسطينيين تجربة أصيلة وخلاقة وفهم متقدم للمجتمع السياسي في بلد متّحد ومتنوع في نفس الوقت حتى يمكن الحديث عن انتصار سياسي وثقافي.

إن من ينتصر هو مفهوم وهو رؤية يجد مختلف الناس أنفسهم فيها، وليس مجرد فوز ناس أو مجتمع أو دولة في حرب ضد غيرهم، فانتصار التعصب مثلاً ليس انتصاراً بل تدمير، ومن ناحية أخرى فإن العقل الخرافي قد يدعونا إلى مفهوم ركودي للنصر والهزيمة، وعلى العكس فإن استنباط صورة ورؤية للتقدم يجد فيها العرب واليهود أنفسهم ويشعرون من خلالها بأنه سيكون لديهم مستقبل أفضل هو أمر لا غنى عنه للانتصار الحق في المعركة ضد الصهيونية. الصيغة التي نقترحها تعد في رأي هذا الكاتب ضرورة لتحرير الفكر الفلسطيني والعربي من صورة انتصار كسول يتم عن طريق سباق الإنجاب بين العرب واليهود أو ما يسمى بالقنبلة الديموغرافية، كما أنه يحرر اليهود بدورهم من عقيدة التفوق العسكرية التي لم ولن تجلب لهم غير الخراب.

ونتصور أنه يجب أن تمر فلسطين بتجربة بناء مستقلة تنجح فيها في تذويب الفوراق الحضارية والمعرفية والتنظيمية بين المجتمعين حتى تبدأ عملية حوار ندية تنتهي إلى كسب أغلبية من أنصار فكرة الدولة الواحدة العادلة لجميع مواطنيها من غير أدنى حاجة إلى نفي التنوع، ومن هذا المنظور يمثل بناء دولة فلسطينية مستقلة ومقتدرة الخطوة الحاسمة في الوصول إلى دولة علمانية وديموقراطية واحدة.

* كاتب مصري

back to top