بوابة حارسها أنت

نشر في 30-03-2008 | 00:00
آخر تحديث 30-03-2008 | 00:00
 ياسر عبد العزيز

مع ظهور القنوات المتخصصة تبددت قدرة حارس البوابة على استخدام وسائل الإعلام في الحشد أو التعبئة أو تكريس حالات للحزن أو الفرح القوميين. فحارس البوابة لا يسيطر على تلك الوسيلة التي تبث على ثلاثة أقمار اصطناعية، ولا يتحكم بتلك القناة التي تذيع أفلاماً تمس ثوابت ومعاني لا يريدها أن تمس.

أحسن الله عزاءكم في حارس البوابة الإعلامية، فآلاف من الصحافيين، ورؤساء التحرير، والمسؤولين السياسيين من حاملي الحقائب الإعلامية؛ منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر، أصبحوا، من دون شك، يبحثون عن أدوار جديدة، وبوابات أخرى يحرسونها. فقد فُتحت البوابة الإعلامية على مصراعيها، وبات الحديث عن تحكم في تدفق المواد عبرها نوعاً من الخيال والتفكير بالتمني. لن تعود عجلة الزمان إلى الوراء، ولن يتمكن أحدهم من حجب الحقائق، أو تقييد الأثير، أو فرض نمط محدد من الذوق على جمهور يعيش أزهى عصور حريته... بل انفلاته.

في الخمسينيات من القرن الماضي بدأت تظهر دراسات «القائم بالاتصال» في الأكاديميات الإعلامية في الغرب؛ وهي دراسات ركزت على الصحافي ومسؤول التحرير من زاوية الظروف والعوامل المحيطة به أثناء تأديته دور مصدر الرسالة الموجهة إلى الجمهور.

لكن عالم النفس النمساوي الأصل، الأميركي الجنسية، كرت لوين نجح في تطوير ما أصبح يعرف بنظرية «حارس البوابة الإعلامية» Gate Keeper ؛ وهي النظرية التي ظلت مهيمنة على معظم الدراسات الإعلامية أكثر من نصف القرن، باعتبار الظروف السياسية والاجتماعية التي أثرت في النشاط الإعلامي طيلة تلك الفترة.

فقد خرج العالم من الحرب العالمية الثانية منقسماً إلى قسمين رئيسين؛ يقودهما قطبان متصارعان، حيث اعتبر كلاهما أن الإعلام من أفضل الأدوات التي يمكن استخدامها لتحقيق النصر في المعركة الكونية الشرسة التي سكتت فيها المدافع وتلاسنت الميكروفونات.

فمن جهة، كانت الشمولية والمركزية في النظام الشيوعي تتيح للقائد/ الحزب/ الدولة التحكم التام في سياسات الاتصال؛ ولذلك فقد كان وجود حارس البوابة الإعلامية ضرورة حتمية؛ إذ يجب أن يكون هناك دائماً؛ يختار للجماهير ما يناسبها، ويحجب عنها ما يضرها، ويردد مناقب القائد/ الحزب/ الدولة، ويفضح جرائم «الأعداء الرأسماليين» و«الإمبرياليين ناهبي أموال الشعوب الفقيرة».

ومن جهة أخرى، كانت الاحتكارات الرأسمالية في أعتى صورها تعين حارس البوابة الأمهر والأكثر احترافية وجرأة؛ حيث يسلط الضوء على «إمبراطورية الشر» و«الجزء شديد الإظلام من العالم»، وبالطبع هناك الكثير من الاهتمام بأخبار النجوم وفضائحهم، وعظمة السياسات الغربية الحرة في مقابل «تدني سياسات الأعداء».

وتتلخص النظرية التي طورها لوين في أن المادة الإعلامية تقطع رحلة طويلة حتى تصل إلى الجمهور، وأنها تمر في تلك الرحلة بنقاط رئيسة (بوابات)، يتم فيها اتخاذ قرارات بما يدخل وما يخرج، وما ينشر بالحالة التي هو عليها، وما يخضع لتعديلات وحذف وإضافة، وما ينشر منفرداً من دون مساندة، وما تضاف إليه الرسوم والصور والمواد المعضدة، وما ينشر في صدر الصفحات، ويبث في مقدمة النشرات، وتتصدره تنبيهات «مهم» و«عاجل»، وما يقبع في ذيل الصفحات، وقرب نهايات النشرات والفترات الإخبارية.

واعتبر لوين أن جميع أصحاب القرار، في كل مفصل ونقطة رئيسة على مدى رحلة المادة الإعلامية هم من حراس البوابات؛ مؤكداً ضرورة الاهتمام بالأوضاع التي يعيشها هؤلاء والظروف التي تحكم عملهم، وتتحكم في قراراتهم؛ لأن تأثيرهم في الجمهور كبير إلى درجة لا يحدها حد.

وليس لديّ شك في أن لوين كان سيعيد صياغة نظريته هذه إذا امتد به العمر حتى عصر «اليوتيوب»، و«الفيس بوك»، و«الجماعات البريدية»، والتلفزيون المدفوع. فعن أي حارس بوابة يمكننا أن نتحدث الآن؟ أول نقطة يمارس عليها حارس البوابة سلطاته هي سلطة «انتقاء القصص»: ما الذي نصوره ونكتب عنه، وما الذي ندعه يمر لا يعلم به أحد، ومن ثم لا يحفل به أحد. لم يعد هناك محل لهذا الكلام؛ فأي شاب صغير في المرحلة الإعدادية، أو كهل لم يدخل مدرسة في حياته يمكن أن يصور حريقاً شب في المنطقة التي يسكن فيها؛ ويركز على تقاعس الشرطة، أو تباطؤ رجال الإطفاء، أو السيدات اللاتي هرعن إلى الشارع بملابس النوم غير اللائقة. هذا الحارس الأول للبوابة، يمكنه أيضاً أن يبث قصته عبر أي من منصات الإطلاق التي لا يحرسها أحد: رسائل الموبايل للأصدقاء، مدونته على الإنترنت، رسالة عبر البريد الإلكتروني، موقع مثل «يوتيوب»، أو غيره.

وإلى جانب بروز هذا «الصحافي المواطن»، وإتاحة «وسائل البث والإطلاق»، هناك التلفزيون المدفوع؛ الذي تتوافر منه أنماط «اختر ما تشاهده»، على غرار «ما يطلبه المستمعون». ومع ظهور القنوات المتخصصة تبددت قدرة حارس البوابة على استخدام وسائل الإعلام في الحشد أو التعبئة أو تكريس حالات للحزن أو الفرح القوميين. فحارس البوابة لا يسيطر على تلك الوسيلة التي تبث على ثلاثة أقمار اصطناعية، وتصر على إذاعة أخبار سياسية يريد حجبها. وهو أيضاً لا يتحكم في تلك القناة التي تذيع أفلاماً تمس ثوابت ومعاني لا يريد لها أن تمس، إضافة إلى ما يتعلق بمستوى الإباحية، ولغة الخطاب، وغيرها.

حارس البوابة الإعلامية مات، مضى عهده وولّى. فز أنت بالصولجان... البوابة الآن لك، افعل بها ما تشاء، لكن حذار أن تقودنا إلى حيث نترحم على الأيام الماضية.

* كاتب مصري

back to top