غادرت طاولتهم وجاءت لتجلس معنا..

Ad

قالت: ليس لديهم إلا الحديث عن الماضي.. لا شيء يثيرهم إلا ماضيهم.. كأنهم لا يعيشون إلا في حكايات منقضية وتاريخ بائت.. فمن الفراعنة إلى زمن جمال عبد الناصر ثم النكسة والعبور وما بعدها.. هو اجترار لحيوات باتت في ماض بلا عودة.

فأين المستقبل منهم.. كأنه بلا وجودهم؟

جميل أن نفكر بالغد.. أن نخطط لأحلامنا المصرورة فيه.. أن نعيش لبكرة.. «الغد الذي نعمل لأجله» لأجل أن نكون فيه، وليس أن نبقى في ماض ٍيحاصرنا بأشباحه المندثرة، ويحيلنا إلى عبور سائر إلى عدمه.

قلت لها بعد استنارة مرقت بي: يبدو لي أنهم على حق، نحن لا نملك إلا ماضينا المخزّن في ذاكرة نستعيده منها لنحيا حياتنا في تكرار، لنولد ونعيش اللحظات السعيدة والتعيسة بلا نفاد.

والمستقبل نخطط له، لكن لا نضمن وجوده، ولا نراهن في القبض عليه.. نحلم به.. نراوده.. ويراودنا.. نتمناه.. أن يأتي كما خططنا له.. أن يحط في شباكنا.. ويلتقط الحبوب التي نثرناها.

لكنّ مجيئه محكوم في لوح الغيب.. لا نملك من مفاتيحه إلا التمني.. وأوهام المجيء.. ووجود غير مقبوض.. إلا بعد أن يتحول إلى حاضر، حينها يصبح وجوداً لنا.. وحياة نعيشها في ما نسميه الزمن الحاضر المعاش.

لكن فرحنا به هو عبورنا في وهم امتلاكه.. في حقيقة تحققه..

هل هو ملك لنا؟

هل حقيقة ملكناه؟

هل عشنا وجوده بإحساس مؤكد، ورهان ثابت؟

أم ما مر بنا ليس إلا انزلاقا مهرولا إلى خاتمته؟..

لا يلتصق بنا لأنه ليس لنا..

فهو لا ينتمي إلا إلى ماضيه المتحول إليه في اللحظة ذاتها.

الحاضر المتحول في غمضة عين إلى ماض..

كل دقيقة نحياها تتحول إلى ماض ونحن نعبرها في الآن ذاته.. نحن السائرون في حاضرنا العابر في لحظته الماضوية، في وقت واحد يسير الزمن بنا في اتجاهين، كل خطوة نخطوها إلى الأمام هي بحد ذاتها خطوة منطوية إلى الخلف، كأننا في عبورنا للحاضر نعبر نحو الماضي، نتحول من «يكون» إلى «كان» في اللحظة ذاتها المعاشة والعابرة إلى ماضيها الذي نمضغه الآن.

التأمل فيها يُحزن القلب؛ لأنه المواجهة مع حقيقة التلاشي.

نحن لسنا إلا عبوراً إلى الماضي، كل ثانية وكل دقيقة وكل ساعة، هي تحول إلى الماضي.

لا نملك من حاضرنا إلا لحظة مضغه وابتلاعه، أي لحظة معايشته.. هذه اللحظات المارقة في استهلاكها المستمر.

لذا ليس لنا من حاضرنا إلا ما استهلكناه، وبقي أثراً من قبضة ريح في ذاكرة تُعيد بث إرسالها المتواصل.

ونحمد الله على نعمة الماضي، منه نسترجع خريطة الأيام لنعيش حياتنا بكل أطيافها، وبتلك التفاصيل الصغيرة المترعة بالأحاسيس، وبقوة اختراق الحواس الخمس لكل المشاعر العابرة في حياتنا، التي كانت مستقبلاً ثم حاضراً عشناه، ثم ماضياً نعيشه بمتعة حنين مستمر، هذا الماضي هو الحقيقة الوحيدة المتبقية معنا.. وهو ما نملكه من حقيقة وجودنا كله.. أو ما نستطيع المراهنة عليه.