مالك فيوض العطاء
احتضن بحنان الكف المعروقة بين كفي...
اقبل شرايينها النافرة، وعظامها الرقيقة الحانية، التي تنبض بحب لا يعرف شح العطاء... لا يدرك بخل العواطف. اليد المعروقة النابضة بيدي، هي عرّابي ومفتاح الدنيا الذي أدار لي الرتاج وأزاح عن الأبواب المغلقة حدود المزلاج. الأبواب الموصدة بالاسرار، وبعتمة المنغلق خلف متاريسه، العصي على إدراك الطفولة وفضول المراهقة والصبا. كلها فُضت عندما تشابكت وازدحمت على طرف اللسان. وانهمرت بفيوض الأسئلة. كانت تندفع أحياناً ببراءتها... وأحياناً بخبثها... ومرات كثيرة محملة بطيش الشباب. اليد المعروقة تحملتها بقوة الحب الصابر والمسامح... الحب الغافر، المربي والمرشد، والمعلم القائد. لا اذكر منها إلا فيضان الوهب والتسامح. أخطائي... زلاتي ذابت بتلك الكف حين سكبتها فيها... لم تعنفني... لم تشهر في وجهي علامات العنف والغضب... لم تحاسبني... ولم تسألني... ومن حقها أن تفعل ما تريد... ولكنها جابهتني بالمزيد من الحنان الآسر. وغفران اكبر من المقدرة. كيف أفي هذه الكف المعروقة التي قادت دروبي في الحياة، وحصنتني ضد المختبئ في المعارف المجهولة؟ كيف أفيها حقها؟ ما الذي يُعطي للذي ملك كل فيوض العطاء؟ كل هدية تصغر عند مالك خزينة الهدايا... كم تساوي القطرة في لجة الفيضان؟ لا شيء يتفوق عليها... ولا شيء يتساوى معها. الكف العليا لا تشبه أيضاً الكف السفلى... الكف العليا مهمتها الريادة، والقيادة، وفتح مغاليق الحياة. لذلك قادتني من الطفولة والى الآن... صاحبت طفولتي ومراهقتي وصباي؟ ارتحلت معي... جاءتني حيثما انتقل بي المكان... من المرقاب إلى السالمية. إلى النقرة والدعية... حين كانت تلتقط كفي الصغيرة بكفها، أشعر بكل الأمان يسكن عقلي وروحي ونحن نسير في الطرقات التي تقود إلى بيتنا أو بيتها. كان العالم كله هو كفها... لا خوف ولا قلق... غير مفهوم معنى الخوف حين أكون ملتفة بحضورها، وملتصقة يدي بيدها، وقامتي الصغيرة تراني وكأني واقفة بجانب الطود، عملاقة في قامتها وعظيمة في هيبتها... فكيف تكون الدنيا وأنا بصحبتها؟ ونكمل المسير... اتبعها بين الأحواش... اقلب اسمها... أناديها «خالوس»... اخترعت طفولتي لها اسماً جديداً، يلتصق بها إلى اليوم... أناديها به. اكبر أنا... واراها تقصر بجانبي... نخلتي الفارعة لم تكن فارهة في طولها... هي اقصر من خيالي ومن طول قامتي... أشياء كثيرة تغيرت مني ومنها... نحلت وهزلت وتعبت من الكلام... ضعف بصرها، وهن صوتها، وأعرقت كفاها... ولكن شيئاً واحداً بقي على حاله لم يتغير، تحدى الزمن. وتحدى ضعف الجسد، وخيانة الذاكرة... هذا الألق الهادر بالنبل وبالجود وبالعطاء. يذوب كل شيء أمام هذه الطاقة النورانية الآتية من عملقة هذه النفوس العظيمة... هبه خارقة تُمنح من فيض الكريم... لا تُعلم... ولا تُدرس... ولا تُورث... ولا تُكتسب. هذا ما تعلمته منها... من منح كفها التي أضمها واحتضنها بقلبي وبروحي وبجوارحي كلها... وبفضلها أدركت بأن الحب أكبر وأعظم معلم. إلى أمي فاطمة في عيدها... عيد الأم... كل الحب.