اعدلوا هو أقرب للتقوى

نشر في 23-09-2007 | 00:00
آخر تحديث 23-09-2007 | 00:00
 ياسر عبد العزيز

حرص الإسلام على معالجة ما يعرف بـ«انحياز النزاهة» في حياتنا كلها معالجة وافية ودقيقة. فإذا نحن أنصفنا مع من لا نحب أو نكره ضربنا أروع الأمثلة على تجردنا ونزاهتنا وعظمة الدين الذي علمنا وانتمينا إليه ونبله وسمو مقاصده.

كثيرة هي أنماط الانحياز والجور التي يعرفها العمل الإعلامي، والتي يقوم من خلالها بعض الإعلاميين، عن جهل أو علم، بتشويه الحقائق سعياً إلى حرف اتجاهات الجمهور وتضليله، لتحيق مصالح وقتية زائلة. ومعظم هذه الانحيازات يمكن كشفها بواسطة المحترفين بسهولة، كما أن الانحراف القيمي بها يكون واضحاً للعيان، وربما يمكن أيضاً معرفة الهدف من ارتكابها والعائد المتوقع منها بقليل من الجهد وإمعان النظر.

لكن ثمة انحيازاً بين تلك الانحيازات يشكل خطورة أكبر، ويترك تداعيات أعمق في نفوس الجمهور، كما أن كشفه وتصحيحه يعد عملية صعبة مقارنة بغيره؛ الا وهو «انحياز النزاهة» Fairness Bias؛ وهو ذلك الانحياز الذي نقع فيه عندما نريد أن نكون نزيهين وعادلين، أو إنسانيين ورحيمين، أو وطنيين، أو متدينين، أو أياً من أصحاب الصفات التي تحظى بالتقدير بين أبناء جماعتنا.

في «انحياز النزاهة» يريد الصحافي أن «يكحلها فيعميها»، يسعى إلى أن يكون عادلاً فإذا هو ظالم جائر، ينتصر للضعيف فيظلم القوي، يعرض آراء وحجج «المستضعفين» من وجهة نظر واحدة، فيفتئت على حق «ظالميهم»، ينصر الشعب وينتقد الحكومة، يعلي شأن الجمهور ويزجر السلطان، يدعم موقف صدام ونجاد لأنهما فقط أضعف من بوش أو لأنهما يدينان بالإسلام، ويعتبر أن أي معركة تنشأ بين صاحب سلطة أو مال ومستضعف بسيط هي عدوان وظلم بيّن على هذا الأخير. وأن أي صراع بين مؤسسة ذات سلطة ونفوذ في مواجهة شخص فرد مهما كانت ذرائع الأولى وأخطاء الأخير صراع بين الخير والشر والجبروت والوداعة يفرض ضرورة معارضة «القوي» والانتصار لمصلحة «الضعيف».

ويحرص علماء الإعلام وباحثوه على التحذير من خطورة هذا النوع من الانحياز، خاصة أنه يرتدي مسوحاً أخلاقية، ويبدو متوافقاً مع نفوس الجمهور التواقة في المجموع لنصرة «الضعيف» ومناهضة «القوي»، بينما يسبب تداعيات ضارة ليس فقط لأنه يجور على حق طرف أو أكثر من أطراف أي واقعة أو حدث، ولكن لأنه أيضاً يكرس مبدأ اجتماعياً خطيراً يصبح فيه مجرد الضعف مصدر قوة تحول دون انضباط الأمور، وفق مسارات الضرورة والمصلحة وتبعاً للقوانين والأنظمة.

ومن منظور «انحياز النزاهة» يمكن أن نعيد قراءة الكثير من الأخبار عن «فساد الحكومة»، و«تسلطها»، و«إهدار حقوق العاملين»، و«بطش القوة الأميركية الغاشمة»، و«العدوان الإسرائيلي المجرم»، و«الحرب على الإسلام»، و«العولمة التي تهدر هويات الشعوب والأمم»، و«المصنع الذي يفصل موظفاً فصلاً تعسفياً»، و«التجار الذين يزيدون الأسعار»، و«مقاومة الاحتلال»، و«انتصار الدم على السيف».

وقد حرص الإسلام على معالجة هذا النمط في حياتنا كلها معالجة وافية ودقيقة في آن، فتلك الآية الكريمة في محكم التنزيل إذ تقول «يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنياً أو فقيراً فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا»، إنما تفّصل هذا المعنى تفصيلاً، وتوضح لنا كيف يجب أن نكون شهداء بالقسط حتى على أقرب الأقربين لنا.

أما الآية الكريمة «ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى»، فتضرب المثل الأصفى والأوضح على عظمة الإسلام ونبل رسالته؛ ذلك أن شنآن القوم أي بغضهم وكرههم، لا يجب أن يجرمنا، أي يحملنا على آلا نعدل في ما يخص هؤلاء القوم، لأن عدلنا معهم هو أقرب للتقوى، لنا ولهم. فإذا نحن عدلنا مع أعدائنا قربناهم من الله، وإذا نحن أنصفنا مع من لا نحب أو نكره ضربنا أروع الأمثلة على تجردنا ونزاهتنا، وعظمة الدين الذي علمنا وانتمينا إليه ونبله وسمو مقاصده.

فهذا رجل يبدو أنه كان فاجراً سأل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب: أتحبني، فأجاب عمر: والله لا أحبك. فقال الرجل: وهل يمنعك بغضك لي من أن تعطيني حقي، فأجاب: لا والله، حقك واصل إليك أحببتك أم كرهتك.

ليس ثمة مفر سوى أن تكون، أو تحاول أن تكون، نزيهاً بقدر المستطاع، لا يحول بينك وبين هذا ما تعتقد أنه صواب بخصوص كذا، أو ظلم واقع لا محالة على فلان ويجب أن نعينه عليه. عليك فقط أن تكون صادقاً مع نفسك والآخرين، أن تكون عادلا نزيها أقرب إلى التقوى.

كيف ستحمي انتماءك إذاً، وتنصر رسالتك؟ ورد عن النبي، صلى الله عليه وسلم، قوله «أنت على ثغرة من ثغر الإسلام فلا يؤتين من قبلك»؛ فعلى كل مسلم أن يرقى، أو يحاول أن يرقى، إلى أعلى درجات القسط والإنصاف، فبذلك يرى الآخرون غرس هذا الدين في أبنائه، ويعرفون أن الحياد والإنصاف والنزاهة والعدل من شيم هذا الدين وأتباعه، وهو أفضل ما يمكن أن نقدمه لدين أو وطن أو رسالة نؤمن بها ونعمل من أجلها.

«واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون».

* كاتب مصري

back to top