الإفساد في الأرض اتّباع للأهواء، وبالتالي الإصلاح فيها هو الحق، بل يمتد الفساد من الأرض إلى السماء، وهو تغليب للمصلحة الشخصية على العامة، وإيثار الأنانية على الغيرة، والمحسوبية على الحق، ومظاهره تبدو في كل مكان.الأرض موطن للإصلاح وليس للإفساد، للتعمير وليس للخراب، ولما كان الإفساد هو الشائع، فقد استعمل لفظ الإفساد في الأرض أكثر من لفظ الإصلاح لأن الإفساد هو الأخطر، وهو القاضي على العمران، واستعمل الإصلاح أكثر في إصلاح ذات البين، والإصلاح بين الزوجين وبين الناس.
والفساد الاجتماعي والسياسي والاقتصادي هو جزء من الفساد في الأرض، فلا يعني الفساد في الأرض ما تفعله إسرائيل بتدمير مظاهر الحياة على الأرض الفلسطينية فقط، أو كما فعلت أميركا في فيتنام من قتل كل شيء يتحرك، وعادة ما يكون الفساد من المستعمر والمحتل والمعتدي، ولكنه يكون داخلياً أيضاً من حكام البلاد مثل تزوير الانتخابات، واعتقال المعارضين، وحبس رؤساء تحرير الصحف، وتهريب الأموال، واحتكار تجارة الحديد والأسمنت، وتراكم رؤوس الأموال في أيدي القلة، والرشاوى والعمولات، والتهرب الضريبي، بل أصبحت ظاهرة الفساد من أهم ظواهر مرحلة ما بعد الاستعمار وقيام الدول الوطنية.
الإفساد في الأرض اتّباع للأهواء، وبالتالي الإصلاح فيها هو الحق، «وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ»، بل يمتدّ الفساد من الأرض إلى السماء، وهو تغليب للمصلحة الشخصيّة على العامة، وإيثار الأنانيّة على الغيرة، والمحسوبية على الحق.
ومن مظاهر الفساد في الأرض قتل الأبرياء وإزهاق الأرواح، «مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا». وهو ما يحدث في السجون والمعتقلات في الداخل كما تفعل كثير من نظم الحكم، والعدوان من الخارج كما تفعل إسرائيل في فلسطين، ويعادل الإفساد في الأرض قتل النفس وهو جزاء الإفساد، «وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ»، وليس منع الفساد بالضرورة عن طريق القصاص بل يكون بالإبعاد عن الأرض موطن الفساد.
والإفساد في الأرض إبخاس الناس أشياءهم والنيل من حقوقهم، «وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ». وعدم المساواة في الحقوق والواجبات، وتقديم المفضول على الأفضل عن طريق الوساطة والرشوة.
ومن مظاهر عصيان الأنبياء اتهامهم بالإفساد في الأرض، «أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ»، فالإفساد والإصلاح رؤى وأحكام قبل أن يكونا أفعالاً وأعمالاً، ومع ذلك فإن لهما مقاييس موضوعية مثل إحياء النفس أو قتلها، أو إعمار الأرض وتخريبها، فلا تتحوّل الرؤى الذاتية إلى تضحية بالمعايير الموضوعية.
والأنبياء والأخيار لايفسدون في الأرض، «قَالُوا تَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ». فالنبي مصلح، والنبوة إصلاح، والوحي تغيير نحو الأفضل ورقي اجتماعي، فقد ساهم الوحي في استقلال الوعي الإنساني وحريّته، وفي تحقيق مبادئ العدالة والمساواة في المجتمع.
والإفساد في الأرض من شيم بني إسرائيل، «وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ»، وهو ما تفعله إسرائيل حالياً في فلسطين بتجريف الأراضي الزراعية، وتدمير أشجار الزيتون، وهدم المنازل، وقتل الأبرياء، الأطفال والنساء والشيوخ، واغتيال المقاومة، وزرع المستوطنات، وإقامة الجدار العنصري العازل، وهو نتيجة للعنصرية الإسرائيلية، القاضية بالحياة لهم والموت لغيرهم، والبناء لهم والعدم لغيرهم، الإعمار لهم والخراب لغيرهم، وكذلك القوى الكبرى مفسدة في الأرض بالحروب وأسلحة الدمار الشامل «يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ». فهي تبغي السيطرة على العالم كله بدلاً من الخالق، والعالم لا يحكمه إلا إله واحد. والنخبة الحاكمة والطبقة العليا تفسدان في الأرض «وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ»، وهم الأقلية ضد الأغلبية، والأغنياء ضد الفقراء، لذلك لا يجوز احتكار الثروة والسلطة بين يدي القلة من دون توزيعها على الأغلبية.
والانقلابيون على الثورات يفسدون ما أصلحوا، «فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ»، كما حدث في تاريخ مصر من الجمهورية الأولى إلى الجمهورية الثانية، وهو أسوأ من الإفساد المبدئي، فالإفساد بعد الإصلاح جريمة مزدوجة لأنه تم بعد معرفة الإصلاح وإتمامه ثم تدميره وإفساده.
ويستحيل الإفساد في الأرض بعد إصلاحها، لأن الإصلاح هو الثابت والفساد هو المتحوّل، والإصلاح هو الباقي والإفساد هو الطارئ، «وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا». فالإصلاح طمع في الإعمار، والإفساد نتيجة عدم الخوف من الله، وعدم الخوف من القانون والدولة والمحاسبة وأجهزة الرقابة، والعقوبة في السماء وفي الأرض، وليس الإصلاح كالإفساد، ولا الإفساد كالإصلاح «الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ»، فالتمييز العقلي والمشاهدة العيانية قادران على الحكم.
والإصلاح في الأرض فعل مقاومة ضد الإفساد، «وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ»، فهو جهاد، يواجه معارضة الفساد ومقاومة المفسدين.
ومنع الفساد في الأرض أمر إلهي، «وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ». وذكر نعم الله تمنع الفساد في الأرض، «فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ»، وهو أمر بشري أيضاً من المصلحين «فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ».
ومن مظاهر الإفساد في الأرض قطع الموصول مثل قطع الأرحام وتفكك المجتمع والفرقة في الجماعة «وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ»، فهو فرقة، والإصلاح قوة.
وكيف يفسد الإنسان في الأرض والله لا يحب الفساد ولا المفسدين «وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ»، فذِكْر الله إذاً هو الطريق إلى الإصلاح، والمصلح في علاقة حسنة مع الله بعكس المفسد، والإصلاح يضع الإنسان في علاقة مع الله، في حين أن الإفساد يقطع كل علاقة مع الله، والإصلاح هو الضمير الحي، والإفساد غياب كلي للضمير.
* كاتب مصري