السيرة الذاتية لطائر الصحراء - 26
الأوغاد
ذكرت في الحلقة السابقة أنني عثرت على نقودي الضائعة تحت السرير، أصبت باغتباط هائل ورحت أرقص و«أنط» كالسنجاب وأهتف «بروحي لروحي»، لقد أصبحت ثريا يا ولد، فها أنت قد عثرت على نقودك، و«استلفت» من صديقك القدومي ما يجعلك (تتبرجز) في أضخم فندق في المدينة، ولمدة يومين على الأقل، وعليك أن ترتب الأمر حينما تستيقظ. ثم رحت أغط في نوم عميق كالسلاحف؛ لأستيقظ بعد ذلك في الخامسة مساء، ورفعت على الفور سماعة الهاتف، وطلبت من استعلامات الفندق أن تصلني بـ«آن المجرية الشقراء»، التي تقيم في فندق ليس بالبعيد، وحينما جاءني صوتها عبر الأسلاك كانت تموء كالقطة الغافية، وهي تنفض عن عيونها الزرقاء الكسل اللذيذ، ثم قالت لي: هيا تعالَ لنخرج للتسكع. *** ارتديت ملابسي وعلقت حقيبتي (الوبرية) على كتفي، واتجهت إليها على أحرّ من الجمر، بينما كانت هي تنتظرني في ردهة الفندق بتنورتها الجينز القصيرة، وقميصها الهفهاف، وشعرها الأشقر الذي يلهو به الهواء، ساعتها قلت لها بجلافة بدوية: ما هذا يا آن ؟ ألا تعرفين أنك في بلاد العرب، حيث العيون الظمأى والغرائز التي يشققها الجفاف، والذئاب الجائلة التي ترى في كل أنثى جميلة مجرد حمل وديع مهيأ للافتراس؟ صحيح أنه بمقدوري أن أحميك من الذئاب قدر المستطاع؛ لأنني ذئب صحراوي حقيقي ولي أنياب حادة ومخالب كالسكاكين، ولكن ليس بمقدوري أن أحرسك من العيون الجائعة؛ لأنني بدوت أغار عليك حتى من الهواء، ضحكت «آن» كثيرا ثم تأبطت ذراعها ومضينا ندلف في الشوارع بلا هوى ولا دليل، ولكنها طلبت أولا أن نتجول في سوق الحميدية الشهير لتشتري بعض الأساور الفضية القديمة، وقلائد الخرز و«الحجول» المشنشلة التي تضعها فتيات الغجر على سيقانهن، وبعض الأكسسوارات التي كانت ترتديها البدويات في القرن الماضي، أما أنا فقد اشتريت لها سيفا مزخرفا بالخزف، ودلة قهوة تملؤها النقوش، فقالت لي: ماذا يعني هذا؟ فقلت لها ببداوة بريئة: إن السيف يعني الشجاعة، والدلة تعني الكرم، وهاتان أهم صفتين يتحلى بهما العرب، فابتهجت كثيرا للمعنى الرمزي لهاتين الهديتين، ثم التفتت إلىّ وقالت بإصرار: أين مضاربكم؟ هل بمقدورنا أن نتوجه إليها؟ فضحكتُ من هذا السؤال المباغت، وقلت لها: اسمعي أيتها المجنونة (آن): ما تبقى من قبيلتي الظاعنة الآن يتجول في أعماق صحراء الحماد في الجزء الشمالي من نجد، وهي مسافة لا يقطعها حتى الطير؛ لأنه يموت من الارتحال والظمأ، فكيف بحمامة وديعة وجميلة مثلك؟! ولكنني على أي حال وعدتها خيرا إذا ما زارتني في الكويت؛ لأن الجزء الآخر من قبيلتي يتجول في صحراء حفر الباطن قرب الكويت. *** «تصرمحنا»: آن وأنا طويلا في شوارع دمشق وأحيائها الشعبية القديمة، وكنت ألقي عليها بعض الشعر فأترجمه أحيانا بلغة عربية تشوبها الألفاظ البدوية وبإنجليزية «مكسرة» لا تخلو أيضا من تلك الألفاظ! وكانت هي أيضا تقول لي ما حفظتْه من شعر الغجر المرتحلين في الأصقاع الأوروبية، ذلك الشعر الذي قرأته مترجما بعد عدة أعوام من ذلك اللقاء، حينما تعرفت على الشاعر العراقي (نامق كامل) الذي قام بالترجمة، وكان زميلا لنا في المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، وكذلك في جريدة السياسة الكويتية أيضا. *** بعد أن أعيانا التجوال والتعب قلت لها: ما رأيك في أن نتناول العشاء في «اللييترنا»، حيث يحتشد فيه الآن العديد من الشعرء العرب الذين يفدون إلى دمشق، بالإضافة إلى شعراء سورية ومجموعة لا بأس بها من شعراء العراق المنفيين والهاربين من القبضة الحديدية لصدام حسين. فأعجبتها الفكرة وقالت: إنها فرصة رائعة لمعرفة الشعر العربي الحديث لأنني- والحديث لم يزل لها- قرأت المعلقات والشعر الجاهلي وخصوصا أشعار وحياة الصعاليك، فقلت لها: حسنا، سترين في «اللييترنا» ماذا حل بالصعاليك العرب اليوم، بل بأحفادهم على وجه الخصوص.