ليس كل وهم سيئاً.. بعض الوهم جميل، وبعضه رحمة..

Ad

وليس هناك ما هو أجمل وأشهى من الوهم في الحب،

في الحب.. الوهم ورقة التوت التي تغطي ماتعرى من حاجاتنا غير المشبعة، وأحلامنا التي لم يحققها الواقع ولم يعترف بشرعيتها،

نحتاج للحب.. فنتوهمه في عيون من نختاره ليلبي هذا الاحتياج.. نكاد نراه في حركة يديه، في ابتسامته، وقد نرى هذا الحب حتى في إهماله لنا، فنوهم أنفسنا بأنه تعمّد ذلك فقط ليثير انتباهنا، وتماديا في الوهم نحدث أنفسنا قائلين: «لو لم نكن نمثّل في قلب من نحب شيئا، لما كان مهما لديه إن أثار انتباهنا أم لا»!! ويبدأ الوهم ينسج سجادة الحرير لتسير خطواتنا عليها مدللة مرفهة بالخيال!

نعيش الحب.. نستمتع بكل تفاصيله، نطرب لأغنيات تحاكي حالتنا العاطفية، أغنيات ما كنا سنستمتع بها لولا حالة الحب التي نعيشها، نتحرق شوقا للقاء غير منتظر.. ولحظة دافئة، حدوثها في علم الغيب!

نتجمّل خارجيا وداخليا لنستحق إعجاب من نحب،

يتشكل مناخنا النفسي حسب الطقس، إن أمطرت أصبحنا عشبا، وإن غطت الغيوم السماء تندّت أرواحنا بماء السلام، وإن تعالى نداء الرياح، أطلفنا نداءاتنا للحبيب، وإن أصبح الجو صحوا، أصبحنا نوارسا فوق السواحل..

كل ذلك.. صناعة خالصة للوهم!

يدبر لنا الوهم صدفا منتقاةً ليكمل مَنطقه فينا..

يرتّب لنا مواعيدا مع من نحب بدون علم مسبق لنا!!

يخبئ لنا قصائدا كتبت خصيصا لحالتنا العاطفية، يخبئها بين صفحات الصحف، بين نغمات الأغاني، في ذاكرتنا، تحت وسائد نومنا، في أحلامنا العذبة، بين نسائم الصباح العطرة.

البعض يفضّل الحقيقة المرة، بينما أفضّل الوهم الحلو، وسبب رفض البعض للوهم الحلو، هو أنهم يندمون أنهم عليه عند اكتشافهم الحقيقة المرة فيُصدمون، ويعتبرون أن مامضى من أعمارهم في الوهم، عمرا ضائعا، والموسيقار محمد عبدالوهاب صاغ عذاب هؤلاء أغنية موجعة فقال: أنا من ضيّع في الأوهام عمره!

وباعتقادي أن الخطأ يكمن هنا، أي في اعتبار الوهم عمرا ضائعا، فلو افترضنا أن الإنسان منا لديه يوم واحد فقط ليعيشه، يوم واحد فقط، فهل يفضّل أن يعيشه وهما جميلا ويستمتع به ثم يوارى التراب، أم يعيشه حقيقة مرّة بائسة مزرية ومن ثم يُدفن تحت الأرض ويهال عليه الرمل؟! بالنسبة لي سأختار الوضع الأول، العمر مجرد كأس فارغ ونحن نملأه غالبا بما نشاء، فالأفضل أن نشربه وهما بطعم السكّر من أن نشربه حقيقة بطعم العلقم، ومن الأفضل ألا تندم على عمر عشته في سعادة بغض النظر عن مصدر السعادة تلك حقيقة كان أم وهما، استمتعوا باللحظات الهنيّة، بدلا من أن تضيّعوها في التحقيق معها، وغربلتها، وأخذها على كرسي الاعتراف، للكشف عن هوية من أرسلها، هل هو الحقيقة أم الوهم ، وعن سبب مجيئها، والسر الذي تخبئه وراء زيارتها لكم، كثير منا يستخسر اغتنام الفرص التي تمنحنا أياها الحياة للإحساس بالفرح ومصالحة الذات عن طريق إسعادها، ويبدأ بالتشكيك في نوايا القدر، وسوء العاقبة إن نحن فرحنا للحظات، بل ان هناك الكثير في تراثنا الادبي الذي يحذرنا من السعادة الآنية، لأن القدر مهما أطال أمد هذه السعادة فسينقلب ضدنا، ويرينا وجهه الكئيب. وبرأيي إذا صح ذلك فمن باب أولى أن نجعل المتعة مضاعفة، وأن نغتنم تسامح القدر معنا، وأن نفرح كل تسنى لنا ذلك، والسعادة التي لا نستطيع انتزاعها من فم الحقيقة، دعونا نقبّل يدَ الوهم التي تهديها لنا.