Ad

إن مشعل «الابن الضال» أخطأ الطريق، وأخطأ التقدير، فهو يريد من العودة، أن يتصالح مع «فتح» قبل أن يتصالح مع نفسه ومع تنظيمه، فالمصالحة الحقيقية مع «فتح» لا تتم إلا بعد أن يتصالح مشعل مع نفسه؛ بمعنى أن يخرج من هذه الخطابات المتشنّجة التي يلقيها من على شاشة الفضائيات، والتي هي من موروث الخمسينيات والستينيات.

- 1 -

لعل الفائدة الكبرى التي أسدتها «حماس» إلى العرب في عصرهم الحديث هي نجاحها في الانتخابات التشريعية الفلسطينية 2006، وتوليها الحكم في البقية الباقية من فلسطين التي هي عبارة عن الفتات الذي تركه الافتراس الصهيوني لفلسطين، بحيث لم يبقَ من فلسطين غير قطعة في الشرق، وأخرى في الغرب، وقطعة في الشمال، وأخرى في الجنوب، وهكذا جرّب العرب الحكومة الدينية التي يحلمون بتحقيقها منذ زمن طويل، وربما لن يعودوا إلى مثل هذه التجربة المريرة قط.

فماذا هم فاعلون؟

- 2 -

إن الفائدة التي نتحدث عنها ربما تمثلت –سينمائياً- بما قدمته «حماس» إلى الشعب الفلسطيني طيلة سنة ونصف من عمر حكومتها الدينية المقدسة العتيدة، من رخاء واستقرار للشعب الفلسطيني، وتقدم في القضية الفلسطينية، بحيث أصبح قيام الدولة الفلسطينية قاب قوسين أو أدنى، وزادت المعونات الدولية والعربية للفلسطينيين، وأصبحت إسرائيل أكثر ليونة وتفهماً واستجابة للمباحثات والتنازل عن مزيد من المستعمرات الاستيطانية، والأهم من ذلك كله، أن الرأي العام الإسرائيلي أصبح أكثر حماساً من ذي قبل لعقد سلام دائم وعادل مع الفلسطينيين، ومدّهم بالتقنية الإسرائيلية، وقبول طلبتهم في الجامعات الإسرائيلية، التي أصبحت من أفضل الجامعات في العالم، ومن ضمن العشرين جامعة المتقدمة حسب التقرير الذي صدر أخيراً عن أفضل 400 جامعة في العالم، ولم يكن من بينها أي جامعة عربية للأسف الشديد.

وها هو الوفد الفلسطيني، قد ذهب إلى مؤتمر أنابوليس، الذي عقد في نهاية شهر نوفمبر في ولاية ماريلاند الأميركية، واشتركت فيه أكثر من أربعين دولة بما فيها الدولة العربية الخارقة والمارقة.

وكان وفد «حماس» في هذا المؤتمر متميزاً، من حيث ضمّه مجموعة ذات مستوى رفيع من الضالعين في التاريخ الفلسطيني–الإسرائيلي الحديث، ومن الخبراء الاستراتيجيين، والمفاوضين المتمرسين. ولم يستمع وفد «حماس» إلى ما قيل من أن هذا المؤتمر هو السوق الأخيرة لبيع ما تبقى من فلسطين، والتنازل عن الحقوق الفلسطينية الثابتة. وأن هذا المؤتمر غايته إنقاذ جورج بوش من الورطة السياسية التي هو فيها، وانتشاله من المستنقع العراقي والإيراني الذي غرق فيه. وأن «حماس» قد ارتاحت كثيراً، وطابت نفساً من اشتراك الحليفة سورية في هذا المؤتمر، رغم انتقاد الحليفة الكبرى والأم الرؤوم إيران لهذا المؤتمر، وانتقادها لسورية أيضاً على هذا الانزلاق المهلك للحلف الإيراني-السوري–الحمساوي.

- 3 -

هل هذا هو الواقع وهو ما جرى، أم أنني أحلم؟

في حقيقة الأمر كان ذلك هو الكابوس الذي قضَّ مضجعي بعد وصول خالد مشعل إلى الرياض، بعد أن انتظر ثلاثة أشهر لكي تأذن له السعودية بالمجيء، ولولا موسم الحج، وإصرار مشعل على الحج كأي مسلم آخر، لما استقبلت السعودية –في ظني– مشعلاً، الذي أفشل جهودها، وأنكر واسطتها، وأضاع وقتها، وهو الذي أصبح في غفلة من «حماس» وزعيمها الروحي الشيخ أحمد ياسين، رئيساً للمكتب السياسي. فيروي الكاتب السعودي مشاري الذايدي نقلاً عن إبراهيم غرايبة المتخصص الأردني في شؤون الحركات الإسلامية، في سلسلة التحقيقات الصحفية التي نشرها بعنوان: «أوراق أردنية في الأصولية والسياسة» («الشرق الأوسط»، أكتوبر 2005) أن الشيخ ياسين عندما أُطلق سراحه من السجون الإسرائيلية عام 1997، وجاء إلى عمّان للعلاج، قيل له إن خالد مشعل يريد السلام عليه، فردَّ الشيخ ياسين: ومن هذا خالد مشعل؟ فقيل له: رئيس المكتب السياسي لـ«حماس»، فردَّ الشيخ ياسين: وما هذا المكتب؟ وما مهمته؟ ولكن خالد مشعل بعد خروجه من الأردن، وإقامته في سورية، استطاع أن يجيد اللعب بحجر السياسة العربية والبيضة الفلسطينية بمهارة، ويتقدم الصفوف، ويصبح الآن زعيماً لـ«حماس»، ونجماً سياسياً.

- 4 -

المهم، أن «حماس» بعد أن نشرت الفوضى الدينية والسياسية والأمنية في غزة، إثر انقلابها على السلطة الفلسطينية، وفعلت ما فعلته في قطاع غزة، وهي أكبر مأساة نزلت بالفلسطينيين –في رأيي- منذ عام 1947 وصدور قرار الأمم المتحدة 181 في التقسيم، وكان فكرة سوفييتية، يقضي بإقامة دولتين في فلسطين لليهود وللفلسطينيين. وهو قرار نتمنّاه اليوم، لو استطعنا استعادته.

بعد كل الذي فعلته «حماس» في القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني، الذي أذلته أكثر مما أذلته إسرائيل، أدركت «حماس» ضرورة المصالحة مع «فتح»، لكي يفتح الله عليها، وعلى الشعب الفلسطيني بالفرج، ويزيل هذا الكرب، والفاقة، والمجاعة، التي هو فيها. ولم يكن أمام خالد مشعل «الابن الضال» غير السعودية التي تقوم بدور «الخطابة» العربية دائماً، لكي تجمع دائماً رأسين على وسادة واحدة بالحلال.

- 5 -

لكن مشعل «الابن الضال» أخطأ الطريق، وأخطأ التقدير، فهو يريد من العودة، أن يتصالح مع «فتح» قبل أن يتصالح مع نفسه ومع تنظيمه، فالمصالحة الحقيقية مع «فتح» لا تتم إلا بعد أن يتصالح مشعل مع نفسه؛ بمعنى أن يخرج من هذه الخطابات المتشنجة التي يلقيها من على شاشة الفضائيات، والتي هي من موروث الخمسينيات والستينيات، تخاطب العواطف والغرائز قبل أن تخاطب العقول. وأن يكون سياسياً واقعياً في طروحه. فزمن العنتريات السياسية التي أدت إلى ما آلت إليه القضية الفلسطينية الآن، قد ولّى. ولم تعد قضايا الشعوب المصيرية تُحلُّ بالعنتريات والشعارات السياسية/الدينية التي تُخدِّر ولا تشفي، وتُسكِّن ولا تُعالج. ثم أن يتصالح مشعل وتنظيمه مع أنفسهم ومع العالم. فالقضية الفلسطينية لم تعد قضية محلية أو إقليمية، بل أصبحت قضية كونية كما نرى الآن، وشأنها شأن كوني، وأي حلٍّ لها أو زحزحة سياسية، يجب أن تأخذ في الاعتبار دولاً معينة في الغرب وليس الطرفين المتنازعين والعرب فقط. وهذا يعني أن تقوم «حماس» بالتخلّي عن كثير من «ثوابتها السياسية/الدينية»، وعلى رأسها التخلّي عن شعار تحرير فلسطين من النهر إلى البحر، وعدم الاعتراف بإسرائيل، وسلوك طريق الكفاح المسلح بدل التفاوض لتحقيق قيام الدولة الفلسطينية. فـ«فتح» التي تريد «حماس» التصالح معها، تؤمن بكل هذا، وهي بهذا في اللون الأبيض من كل هذا، وأما لون «حماس» الأسود في هذه المسائل الرئيسة والمصيرية، فلا يركب على بياض «فتح» مطلقاً. و«لا» «حماس» لا تقبل الصرف مع «نعم» «فتح». وهذا هو لُبُّ الخلاف والصراع الحقيقي بين «فتح» و«حماس». فلكل تنظيم أجندته، وموّاله، وأنغامه ومقاماته، ولونه المختلف عن الآخر.

- 6 -

ومن هنا نرى، أن أي مصالحة بين «فتح» و«حماس» من دون إعادة النظر في الأسس السياسية السابقة من قبل «حماس»، سوف تبقى مجرد «بوس لحى»، و «تطييب خواطر»، و «قهوة مُرَّة»، وحبات تمر، ودخان بخور، ورائحة عود، وابتسامات صفراء أمام كاميرات الإعلام، كما كانت في مؤتمر المصالحة في مكة المكرمة (8/2/2007).

وسوف يبقى «الابن الضال» على ضلاله، حتى لو عاد وأعلن التوبة، وقبض الحسبة، وطلب الغفران، وأقسم على القرآن.

وستعود مرة أخرى «حليمة إلى عادتها القديمة»، لأن ما بُني على باطل فهو باطل.

* كاتب أردني