Ad

في عصر المعلومات، وكما يقول جوزيف ناي المعلم الروحي لمبدأ القوة الناعمة، لا يتحقق الفوز لصاحب الجيش الأضخم والأقوى، بل لصاحب القصة الأفضل. ولقد أصبحت الهند اليوم بالفعل أرضاً خصبة للقصة الأفضل بما تتمتع به من مقومات القوة الناعمة. فالمجتمع الهندي مجتمع تعددي يتمتع بجهاز إعلامي حر ومزدهر وديموقراطية راسخة ونتاج علمي وثقافي مبهر.

أثناء الأعوام الأخيرة سمع العالم كثيراً عن التحول غير العادي الذي طرأ على الهند، وسمع حتى بمطالبتها بحصة عادلة في «زعامة العالم». الحقيقة أن بعض هذه الأنباء مغرقة في المبالغة، إلا أن القوة الحقيقية للهند، من جانب آخر، قد لا تحظى بالتقدير المناسب.

تُـرى ما الذي قد يجعل من أي دولة زعيمة عالمية؟ أهو عدد سكانها، أم قوتها العسكرية، أم نموها الاقتصادي؟ نستطيع أن نقول إن الهند قطعت خطوات غير عادية على كل هذه المسارات. فمن المتوقع طبقاً لمعدلات النمو السكاني الحالي في الهند أن تسبق الصين باعتبارها الدولة الأكثر سكاناً في العالم بحلول العام 2034، كما تمتلك الهند رابع أضخم جيش على مستوى العالم، فضلاً عن أسلحتها النووية، وتمتلك خامس أضخم اقتصاد على مستوى العالم طبقاً لمعادل القوة الشرائية، التي مازالت في صعود مستمر، رغم العدد الهائل من سكانها الذين مازالوا يعيشون في فقر مدقع.

تلك هي المؤشرات التي تستخدم عادة في الحكم على المكانة العالمية لدولة ما. ولكن ثمة عنصر آخر أقل بروزاً على المستوى المادي، إلا أنه أعظم قيمة بمقاييس القرن الحادي والعشرين، ألا وهو «القوة الناعمة» للهند.

ولنتأمل على سبيل المثال وضع أفغانستان التي تشكل مصدراً للانزعاج الأمني للهند، وبقية العالم، إلا أن أعظم أصول الهند هناك لا يتمثل في بعثة عسكرية: فهي لم ترسل أي قوات إلى أفغانستان. بل يتمثل في حقيقة واحدة بسيطة: لا تحاول أن تتصل هاتفياً بأحد الأفغان في الثامنة والنصف مساءً. ففي ذلك الوقت يذاع مسلسل هندي تلفزيوني مدبلج إلى اللغة الدارية على قناة تولو، ويحرص الأفغان جميعهم على مشاهدة كل حلقاته.

إن هذا المسلسل هو الأكثر شعبية بين المسلسلات التلفزيونية في تاريخ أفغانستان، حيث بلغت نسبة متابعته بين المشاهدين %90. وهو يعتبر مسؤولاً بصورة مباشرة عن ارتفاع مبيعات مولدات الطاقة الكهربية، بل وحتى التغيب عن أداء الفروض الدينية التي يتعارض وقتها مع وقت إذاعته. لقد أسر هذا المسلسل التلفزيوني الهندي المخيلة الشعبية في أفغانستان إلى الحد الذي أصبح معه يهيمن على المناقشات العامة للقضايا الأسرية في ذلك البلد الإسلامي الشديد المحافظة حيث يحرص الناس على إخفاء مشاكلهم الأسرية خلف الحجاب.

هذه هي القوة الناعمة التي تكمن قيمتها الحقيقية في أنها بعيدة كل البعد عن الدعاية الحكومية. وأفلام بوليود، التي تحمل ترفيهها البراق إلى ما هو أبعد من الجاليات الهندية في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، تشكل مثالاً آخر للقوة الناعمة. حدثني صديق لي من السنغال عن أمه التي تجهل القراءة والكتابة، والتي تستقل الحافلة إلى مدينة داكار مرة في كل شهر لمشاهدة أحد أفلام بوليود الهندية ـ وهي لا تفهم الحوار الهندي ولا تستطيع قراءة الترجمة الفرنسية على الشاشة، إلا أنها تستطيع أن تدرك روح الأفلام وتفهم القصة، ونتيجة لهذا فإن الناس من أمثالها ينظرون إلى الهند بإعجاب شديد. ومنذ بضعة أعوام أكد لي أحد الدبلوماسيين الهنود في العاصمة السورية دمشق أن الصور الوحيدة المعروضة في الشوارع علناً وتضاهي في الحجم صور الرئيس حافظ الأسد آنذاك، هي صور نجم بوليود أميتاب بتشان.

ولا تقل الفنون الهندية الأخرى، مثل موسيقاها ورقصاتها الكلاسيكية، تأثيراً عن أفلام بوليود. ولا ينبغي أن ننسى أعمال مصممي الأزياء الهنود، التي أصبحت عروض الأزياء العالمية لا تخلو منها الآن. هذا فضلاً عن انتشار الأطعمة الهندية، التي ساعدت الثقافة الهندية على احتلال مكانة أعلى في نظر الناس في أنحاء العالم كافة؛ فأصبحت الأطباق الهندية بمنزلة الطريق إلى الفوز بقلوب الناس. وفي انجلترا اليوم توظف المطاعم الهندية عدداً من العاملين يفوق عدد العمال في صناعات الحديد والصلب والفحم وبناء السفن مجتمعة.

وبطبيعة الحال، تتعزز قوة الهند الناعمة حين تستخدم الإيقاعات الهندية في الأعمال الموسيقية أو الغنائية الغربية، أو حين يبتكر مصمم رقصات هندي نوعاً من الدمج بين الرقص الهندي الكلاسيكي «الكاثاك» وبين الباليه؛ وحين تكتسح الفتيات الهنديات مسابقة ملكة جمال العالم ومسابقة ملكة جمال الكون، أو حين يرشح أحد الأفلام الهندية لجائزة الأوسكار؛ أو حين يفوز الكتاب الهنود بجائزة بووكر أو جائزة بوليتزر.

وعلى المنوال ذاته، حين يتحدث الأميركيون عن المعهد الهندي للتكنولوجيا بالقدر نفسه من الاحترام الذي يتحدثون به عن معهد ماساشوسيتس للتكنولوجيا، وحين يصبح الحديث عن المهندسين الهنود ومبرمجي الحاسب الآلي مرادفاً للحديث عن التفوق الحسابي والعلمي، تكتسب الهند المزيد من الاحترام.

في عصر المعلومات، وكما يقول جوزيف ناي المعلم الروحي لمبدأ القوة الناعمة، لا يتحقق الفوز لصاحب الجيش الأضخم والأقوى، بل لصاحب القصة الأفضل. ولقد أصبحت الهند اليوم بالفعل أرضاً خصبة للقصة الأفضل. فالمجتمع الهندي مجتمع تعددي يتمتع بجهاز إعلامي حر ومزدهر، وطاقات إبداعية تعبر عن نفسها بأشكال متنوعة وجذابة، ونظام ديموقراطي يعمل على تعزيز التنوع وحمايته. لقد اكتسبت الهند قدرة غير عادية على إخبار العالم بقصص أكثر إقناعاً وجاذبية من قصص منافسيها.

إن الهند تتحلى بطابع دولي خالٍ من التكلف. ولقد أثبتت الانتخابات الوطنية التي شهدتها البلاد في شهر مايو 2004 الطابع التعددي الملحوظ للهند، حين أفسحت الزعيمة ذات الخلفية الكاثوليكية (سونيا غاندي) الطريق أمام زعيم آخر من طائفة السيخ (مانوهان سنغ) لكي يتولى رئاسة الحكومة على يد رئيس مسلم (عبد الكلام) ـ في بلد حيث %81 من السكان من الهندوس. الحقيقة أن ما اكتسبته الهند من مكانة بين أترابها في العالم في تلك اللحظة ما كان ليتحقق بأي شكل من أشكال الإغراق في الوطنية أو القومية ـ رغم أن تلك اللحظة لم تكن موجهة نحو العالم.

مازال الطريق أمام الهند طويلاً حتى تتمكن من ضمان صحة مواطنيها وحصولهم جميعاً على الغذاء السليم، وتوفير الأمن لهم. ولقد أحرزت الهند بعض التقدم على هذا المسار: فالمعركة ضد الفقر معركة ظافرة رغم تقدمها البطيء. إلا أن أعظم فرص الهند في الفوز بإعجاب العالم في القرن الواحد والعشرين لا تكمن فيما تفعله بقدر ما تكمن في طبيعتها الحقيقية.

* كاتب ومؤلف كتاب «الفيل والنمر والهاتف الخلوي: تأملات في الهند في القرن الحادي والعشرين». «بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»