الاغتراب ومتاهاته

نشر في 12-10-2007
آخر تحديث 12-10-2007 | 00:00
 محمد سليمان

لم نستطع حتى الآن تصحيح علاقتنا بالآخر وإخراجها من دوائر الالتباس والغموض والرومانسية، ربما لأننا لم نعترف أبداً بتخلفنا وبحاجتنا إلى النهوض والاقتداء بالمتقدمين، كما اعترفت شعوب وأمم أخرى في الشرق والغرب فعالجت ضعفها ووضعت أقدامها على سلم التقدم.

من أنت؟ من هم؟ من نحن؟ ومن أنا؟... هذا السؤال القديم الجديد، سؤال الهوية، كان ومازال عندما ينطلق فينشغل الناس بالاجابة عنه، سبباً لمعظم النزاعات والحروب التي خاضها الناس ويخوضونها الآن... فالإجابة عن هذا السؤال تجبرنا على الحفر والغوص في الماضي والسفر في التاريخ والبحث عن الجذور والسعي إلى معرفة واستخلاص الخصوصيات العرقية والدينية والمذهبية والجغرافية والثقافية وغيرها، ومن ثم إزاحة الذين لا يشبهوننا والمختلفين عنّا، ووضعهم هناك بعيداً خلف اسم كبير واحد هو «الآخرون».

ومع ازدياد الغوص والحفر والبحث سنكتشف، بالإضافة إلى الآخر البعيد المختلف عنا تماماً، ذلك الآخر القريب الذي يعيش معنا وبيننا والذي لا نستطيع إزاحته لأنه مواطن مثلنا، وإن كانت له عشيرته و مذهبه الديني وثقافته المختلفة... وفي النهاية وبعد قدر من التأمل سنكتشف أننا في المنزل الواحد نساكن الآخرين ونعايشهم، وندرك أنهم صاروا جزءاً من ذواتنا ووجودنا ومعاناتنا في الوقت نفسه، لأننا لا نستطيع أحياناً، أو لا نود، ملامستهم أو الاقتراب منهم أو محاورتهم أو الاندماج في عوالمهم... هكذا يبرز الاغتراب الذي صار واحداً من أهم محاور أدبنا وشعرنا القديم والحديث وصار أيضا مادة للعديد من الدراسات النقدية والأكاديمية في نصف القرن الأخير.

العلاقة بالآخر كانت دائماً، ومازالت، غامضة وملتبسة ومتحولة، ويوجهها الخوف والشك وسوء الظن ونقص المعرفة والتشاؤم، لذلك شاعت للآخر صورة النقيض المتربص والعدو. وقد توارت، في المقابل، صوره الإيجابية الأخرى وقد كرس الصورة السلبية عدد من كبار المفكرين والكتاب والروائيين منهم «ديستوفيسكي» و«كافكا»، كما رسختها الفلسفة الوجودية بعد مجازر الحرب العالمية الثانية عندما أطلق بعض روادها والمنتسبين إليها صيحتهم الشهيرة «الآخرون هم الجحيم» التي شاعت ودارت على الألسنة وفي العديد من القصص والقصائد في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي... وهي الصيحة التي عادت الآن إلى الظهور مجدداً.

الآخر الذي يلح علينا ويطاردنا وتطفو دائماً صوره في مرايانا؛ هو الآخر الغربي المؤثر والمسيطر الذي انشغلنا به منذ ما يقرب من ألفي سنة، والذي اشتبكنا معه في نزاعات لا حصر لها، والذي لم نستطع حتى الآن تصحيح علاقتنا به وإخراجها من دوائر الالتباس والغموض والرومانسية، ربما لأننا لم نعترف أبداً بتخلفنا وبحاجتنا إلى النهوض والاقتداء بالمتقدمين، كما اعترفت شعوب وأمم أخرى في الشرق والغرب فعالجت ضعفها ووضعت أقدامها على سلم التقدم، وربما لأننا مهووسون بالماضي وبأمجادنا القديمة وبالخصوصية العربية ونتوهم أن الاقتراب من الآخر سيعصف بهذا كله، ونتحدث عن الغزو الثقافي وننسى أن الثقافة منتج عالمي لا حدود له وأننا نؤثر ونتأثر.

● وفي الواقع، لسنا وحدنا من تسيطر عليه هذه الهواجس ويطارده الخوف من الضياع والخضوع للآخر المهيمن؛ ففي اليابان انتحر الروائي الكبير «ياسوناري كاواباتا» الحاصل على جائزة نوبل عام 1972، احتجاجاً على الهيمنة الأميركية وخفوت الروح اليابانية وتبعه بعد سنوات زميله الروائي الكبير «يوكو ميشيما» الذي انتحر أيضا للسبب نفسه. وفي فرنسا صدر عام 2002 كتاب «العدو الأميركي» لمؤلفه فيليب روجيه، الذي ترجمه بدر الدين عرودكي، وأصدره المشروع القومي للترجمة في مصر عام 2005، والكتاب كما جاء في مقدمته «ليس مقالة هجائية أو عريضة اتهام ضد الولايات المتحدة الأميركية، إنه كتاب تاريخ ثقافي، أو بصورة أفضل تاريخ صور سلبية عن أميركا والأميركيين منذ أكثر من قرنين في فرنسا»...

فالآخر الأميركي، بسبب قوته وهيمنته، صار يقلق حتى حلفاءه ويدفعهم إلى معاداته ومقاومة هيمنته، دفاعاً عن هويتهم وخصوصيتهم وثقافتهم القومية، وهم يفعلون ذلك بما لديهم من منجزات علمية وثقافية ومعرفية، لكننا لا نملك سوى الدين والماضي والخوف من الآخر مهما كانت صورته. لذلك لم يكن أمامنا بعد انهيار أحلامنا وانتهاء عصر «اليوتوبيا» سوى الغرق في التاريخ والارتداد إلى الماضي... ومن ثم ذلك الاغتراب الهائل الذي نغوص فيه وندور في متاهاته.

* شاعر وكاتب مصري

back to top