نحن والعالم بين الهمجية والمدنية

نشر في 14-11-2007
آخر تحديث 14-11-2007 | 00:00
 د. شاكر النابلسي

في كل أمة هناك فئة همجية، لكن الأمم تُصنَّف بأنها أمم متحضرة عندما تكشف وتفضح وتحاسب وتعاقب فئة الهمج منها، وتعتذر بالنيابة عنها للضمير الإنساني عما فعلته فئة همجية ضالة ومريضة.

- 1 -

كراهية العرب الشديدة لأميركا لها ما يبررها في العالم العربي، والعرب ليسوا هم وحدهم الذين يبررون هذه الكراهية، لكن النخب الأميركية في الجامعات ومعاهد الدراسة والأبحاث يبررون أيضاً هذه الكراهية، فيما لو علمنا أن لا دولة غربية كأميركا في التاريخ العربي الحديث انهمكت ونفذت هذا الانهماك وهذا النفوذ في العالم العربي، وفي أكثر الأزمنة العربية دقة وحساسية، وفي أخطر قضيتين عربيتين هما القضية الفلسطينية والقضية العراقية.

صحيح أن المصالح الأميركية في منطقة الشرق الأوسط تفرض على أميركا أن تكيل بمكيالين، أو أن تحابي فريقاً على آخر، لاسيما في ظل ضعف الفريق الآخر السياسي وعدم واقعيته، وتردده في اتخاذ القرار الوطني وليس الشخصي، وخوفه من انتقام الغوغاء والدهماء، فيما لو قبل بالحل السياسي الواقعي، الذي يضمن لشعبه ما ينفعه، لا ما يريده ويتمناه.

- 2 -

لقد بلغ كره العرب لأميركا سقفه الأعلى من خلال ما جرى فضحه في سجن «أبو غريب» عام 2004 من أعمال وحشية، كان أول من فضحها هو الإعلام الأميركي نفسه من دون خوف أو خجل، وكان أول من أدانها واستنكرها قبل العرب ووصفها بالوحشية المسؤولون الأميركيون الذين تبرأوا من هذه الأعمال واستنكروها.

ولو كانت أميركا الأمة، وأميركا الدولة - وليست فئة قليلة مخبولة من جنودها - همجاً كما وصفها العرب، لفعلوا في الكويت التي حرروها من الجرائم الوحشية أكثر مما فعله صدام العربي في غزوه للكويت. ولفعلوا في الصومال المسلمة أكثر مما فعله الصوماليون بهم وبأنفسهم. ولتركوا المسلمين في البوسنة فريسة لهمجية الصرب هناك، ولتركوا «طالبان» مستمرة في حُكم أفغانستان حُكْمَ القرون الوسطى، بل أشد وطأة، ولفعلوا في العراق الآن أكثر مما فعله صدام حسين بأهله وأبناء وطنه في شمال العراق في حلبجة، وفي «حملة الأنفال»، وفي شمال وجنوب العراق، حيث أحرق الأكراد والشيعة معاً، ولتركوا دارفور لحالها يزرع فيها «الجنجويد» الموت والدمار.

- 3 -

لكل أمة من الأمم همجها. والأوروبيون لم يكونوا أمماً مُستثناة من وجود فئات همجية ووحشية بينهم، فما فعلته فرنسا الدولة في الجزائر أثناء احتلالها، وما فعلته في دول المغرب العربي وفي سورية ولبنان، وكذلك ما فعله الهولنديون في أفريقيا وفي شرق آسيا، وما فعلته بريطانيا وفرنسا في أميركا قبل الاستقلال، وما فعلته بريطانيا في الهند وفي العالم العربي، وما فعله هتلر في العالم، كله لا يغيب عن الذاكرة التاريخية بأن لكل أمة همجها المتوحشين. وأميركا الآن ليست مُستثناة من وجود فئة همجية فيها داخل أميركا وخارجها.

- 4 -

من قال لنا إن أميركا أمة من الملائكة والحواريين؟

وأي مِنَ الأمم كانت من الملائكة أو مِنَ الحواريين؟

هل كنا نحن العرب أمة من الملائكة والحواريين بعد أن فعلنا ما فعلناه في مواطنينا وفي الآخرين؟

لا جديد على الإطلاق، ولا دهشة من أن تكون في أمة من الأمم فئة همجية ضالة، فهذه سُنن الأمم، فيها الصالح الكثير وفيها الطالح القليل، لكن المهم هو أن يوجد في الأمة الضمير الذي يستنكر، ويدين، ويحاسب، ويعاقب الهمج على همجيتهم.

الأمة التي ليس لها ضمير هي أمة همجية بكاملها، وليست بفئة من فئاتها. إذا غاب أو مات أو قُتل الضمير برزت همجية الأمة على أصولها وبصورة ساطعة.

غياب الضمير وقتله وموته يتجلّى عندما لا تُدين الأمة همجية همجها ووحشية غوغائها وبربرية دهمائها، ولا تحاسب ولا تعاقب هؤلاء كلهم، ولا تملك الشجاعة الكافية لكي تعتذر للضحايا عما فعلته فئة من همجها.

أميركا الدولة والأمة والإعلام والرأي العام والنخب المثقفة، نشرت، وفضحت، وتألمت، وبكت، واعتذرت عن همجية همجها في سجن «أبو غريب» 2004، فهل قمنا نحن العرب بفعل ذلك في الحادي عشر من سبتمبر 2001 وفي الحادي عشر من مارس 2004، وقبل ذلك، وبعد ذلك؟

لا بل فقد امتدحنا هذه الجرائم وتغنّينا بها، وافتخرنا أننا ثأرنا لأنفسنا بالدم، ورددنا خطبها على الفضائيات أياماً طوالاً بالزغاريد والأهازيج القبلية.

إن أمة الثأر بالدم هي أمة البداوة المتخلفة غير المتحضرة، التي مازالت تأخذ ثأرها بالدم وليس بالرقي.

ماذا فعلت اليابان بأميركا عندما أُحرقت بالقنابل النووية في هيروشيما ونغازاكي وقتل نصف مليون ياباني في أغسطس 1945؟ لم تنتقم بالدم، ولكن بالرقي.

وماذا فعلت ألمانيا عندما تم تركيعها، والقضاء على مجدها العسكري، وإحراق الرايخ الثالث (1933-1945)، ومحق النازية، من قبل أميركا؟ لم تنتقم بالدم، ولكن بالرقي.

- 5 -

الجلادون في أنحاء العالم العربي لا يُحاسبون ولا يُعاقبون، بل يُجْزَون أحسن الجزاء وأرفعه. عبد الحميد السراج نال منصب نائب رئيس الجمهورية العربية المتحدة أيام الوحدة السورية - المصرية، مكافأة له عندما نجح في خطف فرج الله الحلو الزعيم الشيوعي اللبناني المعارض للوحدة، ووضعه في برميل من الأحماض (أسيد) إلى أن ذاب ذوبان الثلج في الماء.

الجلادون في أنحاء العالم العربي يكافأون بألقاب الباشوات، وأصحاب السيادة، والمعالي، والفخامة، وبصُرر الذهب، والسيارات الفارهة، والبيوت الفخمة، والرواتب العالية، والجواري الحسان، جزاء ما فعلوه من جرائم وحشية في أبناء وطنهم.

- 6 -

في كل أمة هناك فئة همجية ضالة ومجنونة، لكن الأمم تُصنَّف بأنها همجية عندما تُخفي جرائم الهمج الوحشية، وتُصفق للهمج، وتُغدق عليهم الأوسمة الوطنية، والرتب العالية، والألقاب الرفيعة، والمال الغزير، والقيان الحسان، ولا تحاسب ولا تعاقب الهمج وهمجيتهم الوحشية، بل تعتبرهم حرّاس الوطن وحماته.

في كل أمة هناك فئة همجية، ولكن الأمم تُصنَّف بأنها أمم متحضرة عندما تكشف وتفضح وتحاسب وتعاقب فئة الهمج منها، وتعتذر بالنيابة عنها للضمير الإنساني عما فعلته فئة همجية ضالة ومريضة.

ذلك هو معيار الهمجية والمدنية في هذا المقام؟

* كاتب أردني

back to top