Ad

كم تذكّرت غادة بحنق، كلما حملت نجاحاً صغيراً حققته في حياتي العملية إلى أمي وأخواتي وصديقاتي، وعيوني تغمز بخبث لئيم: أترون؟ أكون أو لا أكون؟ طبعاً أكون... وفي ذاكرتي «سيرة ذاتية لبومة عربية».

كنت في بداية سنوات المراهقة القلقة، حين تعرفت على الروائية السورية غادة السمان، الكتاب الأول لم يثر حفيظة والديّ، فيما بعد، اضطررت إلى قراءة غادة سراً، ربما أنّ غضب والدتي واعتراضها هما ما جعلاني أغرق في عشق غادة، فهي من نبّهتني إلى أنها إنسانة «خطيرة»! مضيت أبحث عن مكمن الخطورة بمزيد من النهم، واكتشافاتي لا تنتهي. هناك عالم خارج الأسوار المغلقة لمجتمع تقليدي محافظ، بل هناك عوالم كثيرة جداً. الحرية والحب والتحليق كطائر والانشداد نحو الأعلى كشجرة، كثير من التحدي والقوة والتمرد، وأنني يمكن أن «أكون» رضي «أبناء القبيلة» أم لا. وأيضا، أن هناك مخلوقاً لطيفاً اسمه بومة، تحبه غادة وتتخذ منه شعاراً لمنشوراتها، فاتخذت الغراب بالمقابل شعاراً، أطرب لـ«تغريده» وسحر جماله ولطفه!

لسنوات طويلة تلَتْ، حملت معي «كلما حفرتم لي قبراً اتّخذته لبناء قلعة»، وتلك الرغبة الجامحة للحرية والاستقلالية وتحقيق الذات، وبدا أن ذلك فعل بي مفعول السبانخ في «باباي»، فأتخمني قوة،ً لا أذكر أني قرأت بعد ذلك كتاباً عن تحرر المرأة، أوكتبتُ كلمة عن الموضوع، وحتى حين انخراطي في الشأن العام، كنت أنأى بنفسي عن العمل ضمن المنظمات النسوية، فإما أن تقوم المرأة بذاتها لحقوقها، أو لا مقام لها أبداً! أي لا فائدة من استنهاض ومؤازرة وتثقيف.

تلقيت اللطمة الأولى على نظريتي الثوروية هذه، عندما ذقت لوعة العزلة وكمدها، لأن أمهات الصبايا اللواتي في عمري، خشين مني عليهن، كما خشيت أمي من غادة عليّ، وصرتُ مثل مبشّر مهرطق، ما إن يحل في جماعة من ناس حتى ينفضّوا من حوله، واسيت نفسي بأن هذا ديدن العظماء في التاريخ! ومضيتُ، ومع تقدّم السنين، تغيرت الأمور نسبياً. ومن كان ينظر لي بريبة، أصبح ينظر بريبة تشوبها الدهشة والإعجاب، كما قد ننظر إلى كائن فضائي غريب ولطيف جاء لزيارتنا!

عندما بدأت نشاطي في المجال العام، ذُهِلت بما لقيته من تقدير وتبجيل، حتى كدت أشك أن هالة من الضوء تحيط برأسي ولا أراها، وفي الحقيقة لزمني بعض الوقت لأرى أنها كانت مجرد هالة من عصافير، وأن الاهتمام المشكور بي وبغيري من الناشطات من هيئات المجتمع المدني على اختلافها، يعود إلى لزوم «الحضارة»، فمجلس الإدارة يجب أن تكون فيه امرأة، حتى لا تبدو المنظمة ذكوريةً، والنشاط الفلاني بحاجة إلى نساء، كي يبدو متنوّراً وحداثياً، وبسبب قلة النساء العاملات في الشأن العام، فإن بإمكان كل واحدة منهنّ أن تتوّج ملكة! وفيما عدا كونها شجرة ميلاد مزينة بالشرائط والكرات الملونة، فهو لا يلزم. وعند الجد واختلاف الرأي، تغدو المساواة تامة حقيقية، فتُعامَل المرأة الند بالند، حتى كسر العظم والرقبة.

بالمناسبة، الشق الأول مما سبق ينطبق على المراكز «القيادية» والحكومية الهامة أيضا، باستثناء التتويج الملكي ربما، وما دمنا نتحدث عن الحكومة والقيادة، فلابأس من المرور على بعض «الزلات» ذات الصلة، فالصدمة الأولى ذات الطابع الرسمي التي تلقيتها، كانت من الخطيب الذي كان يلقي خطبة الجمعة في جامع مجاور، أخذ الخطيب المفوّه بشن هجوم حاد ضد المنظمات النسوية في سورية، عقدت لساني الدهشة، ففي بلدنا «العلماني»، لا يتدخل أحد في شؤون الناس باستثناء الأجهزة الأمنية، وتتالت الصدمات من كل حدب وصوب، وبعض منظمات حقوق المرأة التي حظيت بمكرمة الترخيص لها، سُحبت منها التراخيص في ليلة غاب عنها القمر، ومُنع نشطاء وناشطات حقوق المرأة من السفر... مثلنا نحن في مجال الحقوق المدنية والسياسية، ومازالت جرائم «الشرف» محمية ومباركة بالقانون، والسلطة التي لا ترى فينا إلا رعايا سامعين طائعين، تقيم كرامة ووزنا لرأي طغمة من الحريصين على «شرف» المجتمع، الممانعين لإلغاء القانون المذكور... بالمناسبة، معظم من يتعرضن للقتل من الفتيات، لا يثبت عليهن فعل «فاحشة»، أو يكون ذلك بسبب الزواج المختلط داخل الطوائف، من دون أن يعني ذلك الدفاع عن قتل الأخريات بطبيعة الحال.

أخذني الحديث بعيداً، وكنت أنوي أن أحيي بدوري اليوم العالمي لمناهضة العنف ضد المرأة، وقد تغير شيء ما في داخلي، كما تغيرت أشياء كثيرة من حولي منذ عرفت غادة السمان حتى الآن. خفّت القيود قليلاً، على السطح فقط، بعيداً في الأعماق، ولم نتحرك إلا بضع مليمترات قليلة.

وكم تذكرت غادة بحنق، كلما حملت نجاحاً صغيراً حققته في حياتي العملية إلى أمي وأخواتي وصديقاتي، وعيوني تغمز بخبث لئيم: أترون؟ أكون أو لا أكون؟ طبعاً أكون، وفي ذاكرتي «سيرة ذاتية لبومة عربية»، وهي تروي: «... حين تضم امرأة عربية إلى صدرك بين ميتة وأخرى من ميتاتها، فأنت لا تضم إليك امرأة، بل تاريخ مجرّة من المباهج والأحزان والاستمرارية رغم كل شيء...». ولطالما كان الجواب تثاؤباً طويلا، تصيبني منه عدوى النعاس لنوم أبدي، لا يلبث الأرق أن يزيحه بعيداً.

لا علاقة للموضوع بتحرر المرأة أو الرجل، وما همّ من أين نبدأ، طالما أننا مازلنا نتشاءم من البوم ونعلي من شأن الحمام! واضح؟

خاتمة:

تقول بومة الأمل: «كانت العجوز تحتضر على فراشها، جاء القسيس لصلاتها الأخيرة قالت وهي تلفظ أنفاسها: سترى كيف سأشفى مع الوقت!» (الرقص مع البوم- غادة السمان).

* كاتبة سورية