وطنيون في وجه وطنيين... والضحية الوطن!
الوطنية الحقيقية هي موالاة هذا الوطن بترابه وناسه الشرفاء كلهم بأطيافهم المختلفة، ومراعاة دستوره، ومؤازرة سلطاته إن هي أحسنت ومحاسبتها والتصدي لها إن هي أساءت، والوقوف في وجه الفاسدين ممَن يعتدون على أمواله وأمنه واستقراره، وأما غير ذلك فكله هراء بلا قيمة!
مسكين هذا الوطن المغلوب على أمره، فقد استباحوا اسمه وانتهكوه وصاروا يزجون به في كل موقف ومسألة، حتى غدت مفارقات الزمان مضحكة جداً، مضحكة إلى حد الإيلام. من سخريات القدر أن نرى اليوم كيف صارت حتى أشد الجهات والجماعات ضرباً وتمزيقاً للوحدة الوطنية تتخذ من اسمه شعاراً. الكل يدعي وصلاً بالوطن، والكل يقول إنه فداء للوطن. فمن ذا الذي يملك ألا يفعل ذلك، خصوصاً وقد صاروا جميعاً في محل الاتهام والتشكيك في وطنيتهم وولائهم، وصاروا يتسابقون ويسقطون يعثر بعضهم بطرف ثوب بعض للتصريح في الصحف والقنوات بأنهم فداء للوطن! ها هم اليوم أصحاب الوطنية الزرقاء يثيرون الدنيا ضد من أسموهم بأصحاب الولاء الخارجي، ويجيبهم أولئك بأنهم وطنيون وأن ولاءهم للوطن أولاً وأخيراً، وتكاد الأمور تنفلت عن السيطرة، فتتدخل السلطة (الوطنية) لفك الاشتباك! وطنيون في مواجهة وطنيين دفاعاً عن الوطن والوحدة الوطنية، فتتدخل أجهزة أمن الوطن لفض الاشتباك (الوطني)! هل هذا لغز أم نكتة؟!كثيرون يكتبون اليوم مقالات تمتلئ بالغمزات واللمزات العنصرية والطائفية ضد أبناء هذا الوطن، ثم يختمون المقالات بدعاء (اللهم احرس هذا الوطن وشعبه حضراً وبدواً، سنّة وشيعة من كل مكروه)! هل هم جادون فعلاً بدعائهم هذا جهلاً منهم بمعنى الوطن ومدلولات الوطنية، أم أنهم يضحكون على ذقون الناس؟!حسناً، لنتجرأ اليوم بعدما صار (الوطن) على كل لسان نظيف ونتن، وبعدما صار حبراً لكل قلم شريف وفاسد، وبعدما غدت الوطنية أغنية مبتذلة تصدح ليل نهار، وبعدما كثر الحديث عن الولاء والوحدة الوطنية، لنتجرأ ونسأل ما هو الوطن وما هي الوطنية؟! هل الوطن هو هذه الأرض بما عليها من التراب والهواء والبحر والشجر بحدودها الجغرافية التي نراها على الخريطة، تلك الحدود التي قد تنكمش أو تتمدد وفقا للمتغيرات السياسية؟ إذن فقد ينام المرء على وطن ويصحو على غيره أكبر منه حجماً أو أصغر بقليل. وكذلك فإن مَن عاشوا على هذا التراب واستنشقوا هذا الهواء واستظلوا بأشجاره وأحجاره منذ عشرات السنين هم وطنيون حتى لو لم يكونوا من حملة تلك الوثيقة المسماة بالجنسية التي صارت اليوم عرضة لمطالبات بعضهم بسحبها عن هذا وذاك في معرض توزيعهم لصكوك الوطنية والولاء على مَن يروق لهم وحجبها عمَن يخالف هواهم!أم هل الوطن يا ترى هو الجنسية الكويتية، وأن مَن يحمل هذه الوثيقة وطني ومن لا يحملها فليس له من الوطنية شيء؟ إذن فقد يُمسي المرء غير وطني فيصبح وطنياً لأن كشف التجنيس قد حمل اسمه، وقد يحتج بعضهم على ذلك ويهددون بمساءلة وزير الداخلية فيصبح الوطني الجديد عرضة للعودة إلى حالة اللا وطن واللا وطنية، إذن ياله من وطن ويا لها من وطنية تقام وتُنقَض بجرة قلم!عندما يوضع المرء على محك إثبات الوطنية فهل يكفيه أن يلوح بجنسيته الكويتية في الهواء وأن «يردح» صائحاً بشعارات تحيا الكويت، تحيا الكويت، تحيا الكويت، مهما كان قد فعل؟! أم أن الأمر أكبر وأعمق من ذلك بكثير؟!الوطن ليس الأرض وما تحويه فحسب، فمن يعشق الأرض المجردة عاشق لجماد، ولو كان عاش على أي أرض أخرى لفترة من الزمان لظرف من الظروف، فلعله سيعشق تلك الأرض، فهل صار له وطن جديد؟!الوطن شيء كبير جامع، فهو الأرض وما تحويه ومختلف أصناف أهلها ودستورها وقانونها الذي يفيء على الناس الأمن والاستقرار ويكفل لهم طيب العيش والمقام وسلطاتها التي تقوم على هذا الدستور وتحكم بين الناس وتسيّر أمورهم بالعدل. وحين يختل طرف من هذه المعادلة فحينها يكون الوطن قد مرض، ولا بد من علاجه، وحين لا يجد المرء على الأرض التي ولد أو عاش فيها أمناً ولا استقراراً ولا يتحصل على لقمة عيش هانئة، أو أن يصبح عرضة للقمع أو التنكيل على يد السلطة أو هذا الطرف أو ذاك، فحينها يختل معنى الوطن في وجدانه، وقد يختفي فيهاجر بحثاً عن وطن!هل يا ترى يدرك مَن يتغنون اليوم بقصائد الوطنية أن السلطة المتجاوزة للدستور أو العاجزة عن العمل والمصرة على الاستمرار بلا نفع ولا فائدة أبعد ما تكون عن الوطنية؟ وأن نواب البرلمان الذين يجيئون بالغش وشراء الأصوات ويغوصون حتى آذانهم في البحث عن مصالحهم الذاتية أبعد ما يكونون عن الوطنية؟ وأن أولئك الذين يعتدون على أملاك الوطن بإصرار ويسرقون أمواله ويتذرعون بعدم كفاية الأدلة أبعد ما يكونون عن الوطنية؟ وأن الذين يخرجون للمناداة بسحب جنسيات بعضهم ومنعهم من دخول البرلمان مع علمهم بأنهم يفتئتون على الدستور ويتجاوزون نصوصه، أيضاً أبعد ما يكونون عن الوطنية؟!إن الوطنية الحقيقية هي موالاة هذا الوطن بترابه وناسه الشرفاء كلهم بأطيافهم المختلفة، ومراعاة دستوره، ومؤازرة سلطاته إن هي أحسنت ومحاسبتها والتصدي لها إن هي أساءت، والوقوف في وجه الفاسدين ممَن يعتدون على أمواله وأمنه واستقراره، وأما غير ذلك فكله هراء بلا قيمة!