إن تصرفات إسرائيل الغبية والوحشية لن تصل إلى أهدافها، بل ستعطي مفعولاً عكسياً في مختلف المجالات، ففي مجالات علاقاتها مع «العرب المعتدلين»، حيث كانت إسرائيل والولايات المتحدة تأملان في أن تتوج السنة الحالية باسم سنة التطبيع مع النظام العربي المعتدل، جاءت النتيجة عكس ما ترغبه.ما حدث في غزة أعاد الحنين إلى أبناء جيل الانتماء القومي، وبعث في نفوسهم الأمل، بعد طول انتظار، بأن المسيرة قد بدأت من جديد، لكن من الخطأ الاستسلام الكامل إلى حالة «النوستالجيا» هذه، بل يجب التعامل معها بلغة العقل والواقع، لا بمفهوم العاطفة والأحلام غير الواقعية.
صحيح أن الحدود بين غزة الفلسطينية ورفح المصرية تشهد كرة ثلج وُلـِدت في الصحراء، وأن الفرصة أن تكبر لتعم الحدود والسدود المصطنعة التي رسمتها عصا ضابط بريطاني على الرمال العربية في أعقاب الحرب العالمية الأولى... لكن الصحيح أيضاً أن المسيرة طويلة مليئة بالدم والدموع، والأصح أن ما هو منتظر لن يحدث غداً، لكنه في الحقيقة والواقع، قد بدأ في الأمس.
هذا الكلام «النوستلجي» تردّد صداه في أكثر من عاصمة عربية على ألسنة أبناء جيل الحروب الخاسرة، والنكسات المؤلمة، هذا الجيل، الذي أنتمي إليه، انكفأ على نفسه منذ هزيمة العام 1967 على يد الإسرائيليين، ينتظر البادرة وكلّه أمل بحتمية تحرك شعبه في يوم من الأيام ليفرض إرادة التوحيد النابعة من قناعة المصير المشترك ليعيد تصحيح ما أفسدته أخطاء السياسة والسياسيين في ذلك الزمان الغابر الرديء. فهل ما حدث على حدود غزة–رفح يمثل تلك البادرة المنتظرة والمطلوبة؟ الزمن القادم هو وحده من يستطيع أن يجيب عن هذا التساؤل.
ومهما كان الأمر، فإن هذا الحدث قد شكّل انفراجاً نفسياً لدى الطبقة الوحدوية العربية، وقد يكون من السابق لأوانه البناء عليه، بعد تضخيمه بشكل لا يتلاءم مع الحقيقة كلها، لأنّ ذلك من شأنه أن يؤدي بسرعة إلى إجهاضه وتحويله إلى نوع من السراب، خاصة أن صحراء الفكر العربي لاتزال مليئة بهذا النوع من السراب الخادع.
غير أن ما حدث على حدود غزة–مصر لا يمكن نكرانه وتجاهل أبعاده المستقبلية، فهو قطرة من غيث طال انتظاره، وإذا لم يعط نتائج إيجابية بالصورة التي يحلم بها العطاش، إلا أنه يشكل خطوة أولى نحو «اختراع» الدواء الشافي، إن الأمراض التي تفتك بالجسد والعقل العربي ليس لها سوى هذا الدواء الموعود، الذي يؤدي إلى العودة إلى الانضواء تحت مظلة الانتماء القومي، حيث تذوب، تحت هذه المظلة، أورام الطائفية والمذهبية والشوفينية وغيرها من الجراثيم الخبيثة. فالعبرة ليست في من يحكم المساحات والفيافي، ولا في نوع أو أشكال الحكّـام. إن العبرة في أن يعود هؤلاء، قلباً وقالباً، إلى الاستظلال تحت خيمة الانتماء القومي من أشعة شمس حارقة، مليئة بالنكبات والكوارث، قادمة إلينا بسرعة الرياح العاتية التي ترافقها والتي لن تبقي ولن تذر.
هذا في التحليل الاستراتيجي القومي، أما في محاولة رؤية ما حدث وما يمكن أن يحدث في أعقاب «ثورة الحدود» هذه، فإن ثمة مؤشرات متزايدة تدلّ على أن الحكومة الإسرائيلية بدأت تفقد اتزانها السياسي والعسكري معاً. وآخر هذه المؤشرات محاولتها إبادة مليون ونصف مليون غزاوي–فلسطيني بمختلف أساليب القتل والتدمير والتجويع، متجاهلة ردود هذا الفعل الشنيع في المجتمع العربي، معتبرة، بشوفينية تذكّرنا بمثيلتها النازية، أن المجتمع العربي غير موجود، وإذا وُجد فلا حول له ولا صرخة. وفي الوقت نفسه ضاربة بعرض الحائط صرخة المجتمع الدولي التي بدأت ترتفع وقد تصل إلى درجة تصمّ الآذان، وفي رأي عدد من المحللين الإسرائيليين والدوليين أن تصرفات إسرائيل الغبية والوحشية لن تصل إلى أهدافها، بل ستعطي مفعولاً عكسياً في مختلف المجالات وعلى امتداد أقاصي الكرة الأرضية. ففي مجالات علاقاتها مع «العرب المعتدلين»، حيث كانت إسرائيل ومن ورائها الولايات المتحدة، تأملان في أن تتوج السنة الحالية باسم سنة التطبيع مع النظام العربي المعتدل، أو على الأقل مع جزء منه، جاءت النتيجة عكس ما ترغبه. ذلك أن بعض الأنظمة العربية التي كانت تجاهر بشكل أو بآخر في رغبتها بالانسياق مع موجة التطبيع أصبحت اليوم محرجة حتى العظم أمام شعوبها والعالم في متابعة تبني سياسة التطبيع. وهذا الإحراج أصاب أكثر ما أصاب الرئيس المصري حسني مبارك الذي بدا وكأنه قد فقد الحيلة في معالجة ما حدث في حدوده مع غزة، لكنه اضطر في النتيجة إلى اتباع سياسة استيعاب «ثورة الحدود» بالرغم من صيحات الاحتجاج الإسرائيلي، وبالرغم من «نصائح» واشنطن. وفي هذا المجال كتبت جريدة «نيويورك تايمز» افتتاحية مختصرة عن الوضع في غزة في 24 من الشهر الجاري، حيث قالت: «إن الإهمال وسوء معاملة مليون ونصف فلسطيني حُوصروا في قطاع غزة هو عملية بشعة وخطيرة جداً، وإذا لم يحدث شيء بسرعة يؤدي إلى تحقيق مطالبهم فإن خطة الرئيس بوش في «أنابوليس» معرضة للانهيار. إن السماح لغزة بأن تغرق في نزاع عسكري هو الطريقة الفضلى لدفن هذا الحلم. واليوم مطلوب استراتيجية جديدة للمعالجة... وتوني بلير رئيس الحكومة البريطانية السابق، وممثل الغرب في عملية السلام، عليه أن يقدّم هذه الاستراتيجيات التي تمنع استمرار المعاناة دون أن يُعتبر ذلك مكافأة لـ«حماس»... بوش بحاجة إلى إرسال موفد على مستوى عال إلى المنطقة ليعالج على الأرض الأزمات التي تغلي قبل انفجارها».
أما المملكة الأردنية الهاشمية فهي أقل إحراجاً من مصر، حيث سارع ملكها إلى الابتعاد قليلاً عن إسرائيل، ولو شكلياً أو كلامياً، بينما المطلوب إسرائيلياً وأميركياً أن يزداد اقتراباً، وهذا بحد ذاته يشكّل نكسة غير متوقعة لهدف تل أبيب وواشنطن في «تعميم» التطبيع مع الدولة اليهودية.
وبالنسبة إلى قادة «حماس» فإنني أتصوّر أنهم سارعوا إلى تقديم التهاني لبعضهم البعض مع قليل من الحلوى، فما حدث على حدودهم مع مصر والذي هو نتيجة لسياسة الإبادة الإسرائيلية ساهم في كشف وجه إسرائيل الحقيقي، ومنحهم، بالتالي، ذخيرة شعبية عربية ودولية لم يكونوا يحلمون بها. هذا إلى جانب إضعاف موقف محمود عباس وقيادة «فتح» في صراعها مع «حماس» على قيادة قطاع غزة.
الزعيم الصيني «ماوتسي تونغ»، قائد رحلة الألف ميل التي وضعت الصين اليوم في مكانها الطبيعي بين الأمم، له نظريات ثورية عديدة لعل أهمها نظرية التعلّم من أخطاء العدو السلبية أو ما يعرف بالغرب بـ NEGATIVE TEATCHER. ومن المؤكد أن «حماس»، ومن ورائها حركة الممانعين العرب، سوف تعيدان قراءة هذه النظرية وممارستها في صراع الحياة أو الموت مع الدولة الصهيونية.
* كاتب لبناني