Ad

وحدة وطنية «موحدة» بالقوة والإكراه، سلطوياً أو دينياً أو طائفياً، غير نابعة من ثقافة الاختلاف وقبول الآخر والحرية، وما الوحدة الوطنية بغير ذلك؟ وليست نابعة من الثقة بالنفس بحيث تشعر بالتهديد عند أولى نسمات الخريف، وهي أخيراً، ليست «وطنية» لأنها تنبثق أساساً عن السلطوي أو البروفيسور أو الأهلي، بدل أن تشكل مظلة لكل ما سبق.

إلى البروفيسور عارف دليلة في خريف سجنه السادس...

لا رابطة تجمع البروفيسور عارف دليلة بمسلسل «للخطايا ثمن»، باستثناء «الوحدة الوطنية» التي جار عليها الاثنان في ما زُعم.

في مثل هذه الأيام قبل سنوات ست، غُيب البروفيسور عارف دليلة في معتقله، وحكم عليه بالسجن عشر سنوات، كان الوقت في الخريف تقريباً، اقتضى تغييب البروفيسور حفاظاً على ربيع «الوحدة الوطنية». قالوا وقتها، إن الخريف الدمشقي، لا يأتلف مع مفردات الحرية لسبب ما!

في مثل هذه الأيام قبل سنوات ست، كان العالم مصدوماً بجنون الإرهاب وأهواله. في سورية، كنا نراقب مثل الملايين نشرات الأخبار هنا وهناك، ولا نصدق ما يسوقه المحللون، بأن زمن ما بعد الحادي عشر من سبتمبر هو غير ما قبله. على الأقل فهذه المعادلة لا تنطبق على الزمن السوري المتكلس، أمثلة كثيرة بينت بعد ذلك، أنها لا تنطبق على عالمنا العربي ككل، فـ«ثوابتنا» عصية على التغيير.

قبل الحادي عشر من سبتمبر، كان الخريف يطرق أبواب دمشق الصيفية بصعوبة. خريف الحنين وبرد الليل يمحوهما لظى النهار. الشجر نحو الذهبي والرحيل، والذاكرة تتقمص نفسها في جميع أطوارها، وكأن الوقت ضد نفسه إلا على عتبات هذا الشهر الحالم.

خريف ذلك العام دخل دمشق – كما اعتاد أن يفعل منذ عقود- متسللاً من نوافذ الزنازين، ماراً بأحلام المسجونين وأوهام السجانين. اكتمل وصوله، مثخناً بذاكرة الألم، متعباً وعليلاً، من ماض يكرر نفسه في حاضر يشبه أمسه القبيح. اكتمل وصوله بعشرة مثقفين ومبدعين أودعوه بصماتهم من زنازين سجنهم. أول حراك سوري ثقافي وسياسي من نوعه منذ سنوات مديدة، انتهى في ذلك الخريف باعتقال أبرز رموزه. البروفيسور دليلة أحد أبرز رجالات الاقتصاد في سورية، الذي «نُحيي» اليوم ذكرى اعتقاله، هو أحدهم.

ليس في قصة الخريف الدمشقي ذاك ما يفاجئ. محظوظ من لاتزال لديه القدرة على الدهشة، أصبحنا مبرمجين على الخريفات المتتالية، لكن بغير أن نتآلف معها. تتشابه القصص إلى حد التطابق، ولا تفقد بريق قهرها. لا فرق بين فلانة فقدت وحيدها قبل عقدين أو أكثر، وفلانة اعتقل ولدها منذ أشهر أو سنوات قريبة، التفاصيل المروية تختلف، وجه الابن، رائحته في ثياب والدته، شكل دمعها أو لونه، كيف تتذكره أو تلفظ حروف اسمه، الخريف لا يختلف، انتظار يؤسس لانتظار، سجون لا تنطفئ ظلماتها، و«رتم» رتيب من تهم تهديد الوحدة الوطنية وإثارة النعرات الطائفية ونشر الأخبار الكاذبة!

أتقنا ببراعة خلال السنوات الست الماضية، بناء قوائم بأسماء المعتقلين، لكل معتقل رقمه المتسلسل في سجنه، ومثله في قوائم المنظمات الحقوقية. بعدد الاعتقالات زيادة أو نقصاناً نقيس حجم الانفراجات أو الاختناقات السياسية الداخلية. وعلى وتيرتها، تسير همة العمل العام صعوداً أو هبوطاً، وكأننا ونحن «أحرار» بتنا مربوطين من «حريتنا» بعجلة الاعتقال وطواحين «الوحدة الوطنية» المهددة.

ولطالما تساءلت، إلى أي حد هي مزعزعة ثوابتنا ومجزأة وحدتنا كي نخاف عليها من كلمة أو موقف، وإذا كانت على هذا التهلهل فلماذا لا تدخل إلى غرفة الإنعاش؟ وإذا لم تكن كذلك، فلماذا لا تمنح فرصة لتثبت صمودها أمام من يتهمون بزعزعتها بهرطقاتهم عن الحرية والديموقراطية؟

الأسئلة ذاتها مرت في ذهني عندما أذيع نبأ وقف عرض مسلسل «للخطايا ثمن»، للمعترضين عليه أسبابهم، فهو يهدد «الوحدة الوطنية» إياها، التي تحمل معاني وتأويلات مختلفة على امتداد عالمنا العربي، من طائفة إلى طائفة ومن نظام سياسي إلى نظام، حتى إذا جمعنا «الوحدات الوطنية» المتنافرة في معانيها بين علمانيين وإسلاميين وديموقراطيين ومستبدين، فإننا نحصل على الهامش صفر الذي يمكن من خلاله للفكر أن ينتج وللإبداع أن يتحرك.

وللخريف وجهه الآخر، وحدة وطنية «موحدة» بالقوة والإكراه، سلطوياً أو دينياً أو طائفياً، غير نابعة من ثقافة الاختلاف وقبول الآخر والحرية، وما الوحدة الوطنية بغير ذلك؟ وليست نابعة من الثقة بالنفس بحيث تشعر بالتهديد عند أولى نسمات الخريف، وهي أخيراً، ليست «وطنية» لأنها تنبثق أساساً من السلطوي أو الطائفي أو الأهلي، بدل أن تشكل مظلة لكل ما سبق.

بالمناسبة، لا البيانات ولا الاجتماعات ولا المنظمات ولا الأحزاب، استطاعت أن تجمع ما بدده حماة «الوحدة الوطنية»، للأسف، وحده خريف السجون لمّ الجرح على الجرح، وقرب مسافات كانت تبدو لا متناهية في بعدها، وحده قفز من فوق تناقضات الايديولوجيا وردم جزءاً من الهوة الساحقة بين نخب معزولة وبسطاء مهمشين، «الوحدة الوطنية» تشهد ضد ذاتها!

* كاتبة سورية