صباح هذا اليوم أخرجتُ أعمال «جيزوالدو» الموسيقية من رفوف مكتبتي، وهيأتها للسماع، وهي قليلة، معدودة في مجملها، على كل حال.

Ad

موسيقى تنتسب إلى المرحلة المبكرة؛ فقد عاش جيزوالدو بين عامي 1561-1613. والموسيقى المبكرة عادة ما تقتصر على الحناجر البشرية في الأداء، وعادة ما تكون وليدة أقبية الكنيسة، ونتاج الهاجس الديني، ولكن هذا الرحم لن يمنع الموسيقى التي تخرج منه من أن تُعبّر عن مشاعر جد شخصية لمؤلفها.

والذي جعلني أستعيد جيزوالدو دافع المقارنة مع رسام في تفردهما الرفيع في قوة التعبير عن هذه المشاعر الخاصة جدا، والشخصية جدا.

كان كارلو جيزوالدو أميراً في مدينة فينوزا الإيطالية في 1590، وبفعل وشاية غيرة، اكتشف علاقة سرية بين زوجته وأحد الدوقات الشبان، فقتلهما معاً. واحتمى فترة في قصر من قصوره، وبالرغم من أنه لم يتعرض لمطاردة قانون، فإنه ظل طوال حياته مُعرَّضا لمطاردة من داخله، مطاردة الإحساس بالخطيئة والذنب، فألزم نفسه بأن يخضع للجَلد اليومي على يد شبان أقوياء انتخبهم لهذه المهمة. والغريب أن جيزوالدو لم يصبح موسيقيّا منتِجا إلا بعد جريمته ومطاردته بمشاعر الخطيئة، ولذا تعبأت موسيقاه بخصائص غريبة على الموسيقى في زمنه، وأصبحت لدى مكتشفيه، والمعجبين به في عصرنا الحديث، خصائص طليعية جديدة، وضعتْ اسمه في مصاف رواد «التعبيرية».

موسيقاه الكورالية واضحة الميل إلى الإفلات من مجرى الانسجام، الذي يتمتع به أسلوب البوليفوني (تعدد الخيوط اللحنية). وتُفضِّل أن ترتبك داخل النشازات، متعارضة لا متتابعة. وتحيطها عتمة كالشَّرَك. عتمة تتوحد فيها الرغبة الحسية بهاجس الموت. أمر يليق بحلم لا يبدو الضوء فيه إلا عتمة مرئية، والعواطف البشرية كالحلم، من حيث شبكة تعقيدها، لاسيما العواطف الغامضة إزاء الكليات. موسيقى جيزوالدو تمنحني فرصة كهذه للذهاب بعيدا داخل شبكة العتمة، التي تعتمل داخل الكائن الإنساني.

ولأن هناك أكثر من رابط بين شخص جيزوالدو والرسام «كارافاجيو»، وبين موسيقى الأول ولوحات الثاني، أجدني لم أتوان عن العودة إلى المكتبة، ولكن إلى رفوف الكتب هذه المرة لألتقط كتابا بلوحات الإيطالي كارافاجيو. ففي كليهما حدة طبع، ورائحة جريمة، وملاحقة مشاعر ذنب تضفي ضربا من العتمة لا يفقه كنهها إلا هذا الطراز النادر من الفنانين.

كان كارافاجيو مُجايلا لجيزوالدوا، إذ عاش بين 1571-1610، ولكنه لم يكن ينتسب، شأن جيزوالدو، إلى الطبقة الأرستقراطية، بل على الطرف النقيض تماما، فقد كان سيئ الطبع، سيئ التربية، منحرفا، لا مستقر لروحه، أقام في روما في عمر الواحد والعشرين، بِهِمّة رسام ناضج مُولَّه بمشاهد الحياة اليومية المحيطة في الشوارع والخمّارات. وإذا رجع إلى الأساطير فبطله «باخوس»، إله الخمر والمتعة، يرسمه على مثال أحد صبيانه مع أظافر متسخة. وحين تتسع شهرته تنهال عليه التكليفات من الطبقة المتمكنة، فيبدأ، إلى جانب استلهام الحياة الدنيوية، في رسم المشاهد الدينية، بقياسات كبيرة الحجم، ولكن انعكاسات العنف والمشاكسة الداخليين وجدت مرتعا خصبا في هذه اللوحات الدينية؛ إذ نجد في لوحة «العذراء الميتة» قدمين للعذراء، عاريتين موحلتين. ويروى أنه رسمها على موديل لامرأة شارع. وكذلك لوحات قطع الرأس المستوحاة من قصص التوراة.

كان كارافاجيو يحمل سيفا غير مرخص به حيث يذهب، ليخلّف أثرا من مخاصمة لا تخلو من خطورة. في عام 1605 اعتُقل وحُبس، وفي العام التالي، أي بعد 14 عاما من جريمة الموسيقي جيزوالدو، ارتكب كارافاجيو جريمة قتل لأحد خصومه، هرب على أثرها إلى نابولي، ثم إلى مالطا وحُبس هناك، ثم هرب من السجن إلى سيسلي، وكان في كل مراحل الهرب هذه غزير الإنتاج في رسم مآثره الفنية الخالدة. وفي منتصف رحلة العودة إلى روما قُبض عليه اشتباهاً، ووضع في السجن، وبعد أيام من إطلاق سراحه توفي محموماً.

في لوحته تبدو العتمة هي التي تتنفس وتتفشى على المشهد، تماماً كتنفس وتفشي الضوء في لوحة «رامبرانت». وحين كنت أصغي إلى موسيقى جيزوالدو أتأمل العتمة ذاتها وهي تتفشى عبر الأصوات. وهل أجمل من الغرق في بحار عتمة المبدعين؟