يعرف كاسترو كيف يخاطب الإعلام ويستغله، يختار ما يحبه الناس من قضايا ليطرحه، فيسحب وراءه «الميديا». وقد أتقن ثلاث استراتيجيات إعلامية ولعب عليها ألعابه التي مكنته من حصد النجاح الباهر؛ فقد سلط الضوء على قضايا تخدمه وحجب أخرى، وصنع صورة قائد ثوري زاهد، ولعب بالكلام والسياسة بمهارة لتعظيم رصيده الشعبي.فعلها فيدل كاسترو؛ صحا الزعيم الأسطوري من غفوته، وتنازل، طائعاً أو كارهاً، عن ألذ النعم وأشدها إغراء... سلطة لا يحدها حد، ولا يربطها قيد، ولا يفت في عضدها الزمن. فعلها الرئيس الكوبي السابق، بعدما حكم بلاده قرابة نصف القرن؛ فكان مالىء الدنيا وشاغل الناس، محط الأنظار وعدسات الكاميرات، وخالب ألباب سامعين، ومدغدغ عواطف متابعين، ومثير أحقاد الكثيرين.
في عام 1959، وفي ذروة عصر الكتلتين، وتنازع عقل العالم وقلبه بين قطبين، وتقسيم النفوذ والثروات والمقدرات على رقعة الشطرنج الكبيرة بين الاتحاد السوفييتي السابق والولايات المتحدة الأميركية، وصل كاسترو إلى سدة الحكم، بعدما أطاح فولخنسيو باتيستا، بعصبة من الرجال محدودة العدد، وبعزم لا ينفد، وبكثير من الحظ والدأب والإصرار.
وإذ تمركز الشاب، آنذاك، كاسترو على دكة الحكم، بات من الصعب على أحد أن يطيحه من عرشه. تسعة من الرؤساء الأميركيين تعاقبوا عليه؛ خمسة منهم على الأقل اعتبروه هدفاً للتصويب رئيسياً، وعدواً صريحاً، وأربعة آخرين فعلوا الكثير لتكدير أحواله وانتظار سقطاته، ربما تمكن أحدهم من تحقيق هدف كبير عزّ على دهاة المخططين الاستراتيجيين وعتاة الفكر والإعلام وأباطرة الاستخبارات الوصول إليه.
لكن الرجل مضى في طريقه بين حقول الألغام وحدائق الخطر، وكاد أن يدخل بالعالم إلى أتون حرب عالمية ثالثة، تستخدم فيها الأسلحة النووية كما تستخدم البنادق، وغير مرة تأرجح كرسيه على إيقاعات المجاعة والعوز، وتجرع كأس السم صاغراً في سنوات الحصار، وبدّل تكتيكاته مرات ومرات، ليتوافق مع عصر القطب الأوحد، حيث الولايات المتحدة قوة كونية تأمر الكون فيطيع، وحيث بات عثوره على صديق معلن أسهل بكثير من اجتراح معجزة من المعجزات.
فعلها كاسترو... وتنازل عن الحكم. ترك منصبيه التاريخيين؛ رئاسة مجلس الدولة، ورئاسة أركان الجيش، حيث تحكم في مقادير الحياتين المدنية والعسكرية، قابضاً على سلطتي القمع والإرضاء، متحكماً في الموارد والقيود، واحداً من دون شريك... فقط أتباع ومعاونون، سامعون منفذون طائعون.
سلّم الزعيم الداهية السلطة لأخيه وتابعه وساعده الأيمن راؤول؛ فتفادى احتمالات المساءلة والمحاكمة والسجن والإلغاء، وتيقن من حفظ صورته التي كرسها عبر السنين في منأى عن التلطيخ والإهانة. سلّم كاسترو السلطة لـ «الجيل الجديد»، لزعيم «شاب»... أخيه راؤول، الذي لم يتعد السادسة والسبعين! وقد فعل راؤول، الذي ثبتته الجمعية الوطنية رئيساً بالإجماع، الشيء نفسه، فعين نائباً من الصف الثاني، عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي، وأحد رفقاء الثورة والحكم المديد، ماخادو فنتورا، الشاب الذي لم يتجاوز الثامنة والسبعين، نائباً للرئيس (...).
ما أحلى هذه الفورة الشبابية، والحكمة البالغة، والزهد في السلطة، لفتح الطريق للأجيال الجديدة. رئيس في الحادية والثمانين، يتنازل عن الحكم بعد 50 عاماً، لشاب في السادسة والسبعين، يختار بدوره نائباً يكبره بعامين.
كثيرون لا يعرفون السر الكبير. كيف استطاع هذا الرجل ذو الخلفية العسكرية المحدودة أن يناطح أباطرة الزمان والمكان، وأن يتصدر المشهد الكوني، بإمكانات جزيرة منعزلة، وكتلة حيوية محدودة لا تكفي للبقاء في خريطة، في عصر عرف أعتى القوى وأمضاها، وشهد على أقسى استخدامات للعنف وأوسعها.
الإعلام كان سر هذا الرجل ولعبته الأثيرة. فإلى جانب الدهاء الواضح في اللعب على التوازنات، واستمداد القوة من الضعف، والفهم الحاذق لطبيعة العدو والقيود والمخاطر التي تحد أفعاله، والتعويل على الصبر ومن ثم الزمن، كان كاسترو عارفاً بقواعد تسخير الإعلام واستخدامه على النحو الأمثل، على عكس التضييق والحجب والتحجيم الذي فرضه داخل بلاده.
ثلاث استراتيجيات إعلامية أتقنها الرجل ولعب عليها ألعابه التي مكنته من حصد النجاح الباهر؛ فقد سلط الضوء دائماً على القضايا التي تخدمه، وحجبه عن القضايا التي تنال منه Issue Frame. وصنع صورته كقائد أسطوري زاهد نذر نفسه للثورة والناس، خطيباً مفوهاً يجد ما يقوله بالصوت العالي لأكثر من عشر ساعات Image Frame. وأخيراً لعب بالكلام والسياسة محولاً ما عليه ليصبح رصيداً ومنافع تصب في عروق قوته وبقائه Strategy Frame.
هذا الرجل يعرف كيف يخاطب الإعلام ويستغله، يختار ما يحبه الناس من قضايا ليطرحه، فيسحب وراءه «الميديا»، ويدقق في صورته... ملابس عسكرية خشنة، ولحية غير مهذبة، وسيجار كوبي فاخر، وحركة شاب ينزع نحو حلم غير كاذب، وأخيراً يصوغ عباراته كما تصاغ المانشيتات في الصحف والعناوين في إعلانات الترويج للمجلات.
«جندي أفكار»... هكذا صاغ بيانه الأخير. هكذا قال كاسترو؛ سأعتزل السلطة، وأتحول «جندي أفكار» في خدمة الوطن. يا له من عنوان بارع لمرحلة جديدة، ومقالات وأفلام وصور وأيقونات عن هذا الرجل الذي حكم لخمسين عاماً وذهب طائعاً من دون ضغط؛ فقال عنه خلفه: «فيدل هو فيدل... ونحن نعرف جميعاً أنه لا يمكن الاستغناء عنه». ترى كم حاكما لدينا نرجو له العنوان ذاته؟ كم حاكما لدينا نرجو له وظيفة «جندي أفكار»؟
* كاتب مصري