تناولنا الاثنين الماضي الجزء الثالث من هذه الدراسة إطلالة سريعة على ظروف نشأة الأحزاب والواقع الذي فرضها، وأن أول أحزاب نشأت في أوروبا كانت أحزاباً إقليمية، شكلتها مجموعة برلمانية، كانت قضيتها المحورية هي الدفاع عن الإقليم الذي تمثله، وأن بعضاً منها أنشأته النقابات العمالية للدفاع عن مصالحها، وأن بعضها أنشئ لتحرير البلاد من نير الاحتلال، وأن بعضها كان إما عقائدياً أنشأته الكنيسة الكاثوليكية وتولت رعايته، وإما عقائدياً مؤمناً بالفكر الماركسي واللينيني، وأن الأعراق والقبائل والجماعات الأثينية كان لها دورها في نشأة بعض الأحزاب، وأن بعضها أنشأته بعض أنظمة الحكم ليضفي عليها شرعية كانت تفتقدها في علاقتها بغيرها من الدول أو في المنظمات الدولية.

Ad

وقد استهدفنا بهذه الإطلالة السريعة على التجارب الحزبية في العالم من حيث نشأتها وتطورها، أن نتبنى الطريق الصحيح للتعددية السياسية، الذي لا يقوم على التقليد أو على إلغاء الآخر أو تكريس مفهوم الطائفة أو القبيلة أو العشيرة أو العائلة، بل يقوم على قضايا محورية تنفتح على الآخر وتتعايش معه وتلتف حولها الجماهير لتكون قاعدتها الشعبية التي تصل من خلالها إلى الحكم، عبر انتخابات تتوافر لها مقومات النزاهة والشفافية كلها، وتعبر تعبيراً صحيحاً عن إرادة الشعوب.

وتكشف التجارب البرلمانية في دول الغرب عن أن القضايا المحورية هي محور المعارك الانتخابية، فالصراع فيها بين الجمهوريين والديموقراطيين في الولايات المتحدة الأميركية يدور بشأن قضايا الضرائب والتأمين الصحي والاجتماعي، والتمسك بالقيم الدينية، ومن المؤكد أن التجربة الديموقراطية في الكويت، التي تتميز بكفالة الحريات جميعها، حرية العقيدة وحرية الفكر وحرية الرأي والتعبير عنه وحرية الصحافة، قد أفرزت على الساحة السياسية في الكويت، قضايا محورية، يتناقض بعضها والأركان الأساسية التي يقوم عليها الدستور ذاته، مثل المطالبة بتعديل المادة 6 من الدستور ليقوم الحكم في الكويت على أساس نظام الشورى وليس على أساس النظام الديموقراطي، فقد اقترحت جمعية الإصلاح الاجتماعي في رسالة لها في أواخر السبعينيات من القرن الماضي تعديل المادة 6 من الدستور ليصبح نصها على الوجه الآتي «نظام الحكم في الكويت الشورى، السيادة فيه لله عز وجل والأمة مصدر السلطات»، بدلاً من النص الحالي الذي يقرر أن «نظام الحكم في الكويت ديموقراطي السيادة فيه للأمة مصدر السلطات جميعاً».

وهو ما يحمله تيار أعلن تأسيسه في عام 1997 بمسمى تجمع أنصار الشورى، والذي كان من بين أهدافه أن يكون اختيار مجلس الشورى من أعضاء الجمعيات ذات النفع العام وعلماء الدين وأساتذة الجامعة ومن الهيئات والنقابات وأمراء القبائل الكويتية.

وقد تطرف بعضهم متأثراً بهذا الفكر إلى القول إن الترشيح لعضوية مجلس الأمة ينافي العقيدة الإسلامية، وقد حمل هذا الرأي عنوان كتاب أصدره الشيخ السيد غباشي، عنوانه الرأي السديد في أن دخول مجلس الأمة منافٍ للتوحيد.

وهم بتطرفهم هذا لا يحققون أهدافهم في قيام نظام الشورى، الذي يتطلب تعديل الدستور، والذي لا يمكن تعديله طبقاً للمادة 174 من الدستور إلا بموافقة صاحب السمو الأمير وأغلبية ثلثي أعضاء مجلس الأمة، طالما أنهم قد حرموا على أنفسهم دخول مجلس الأمة!

كما أن الانفتاح على جامعة الدول العربية أو الانكفاء على مجلس التعاون لدول الخليج العربية، هو أحد المحاور التي يمكن أن يتركز الخلاف حولها في تكوين الأحزاب.

وأن قيام جامعة للدول الإسلامية هو محور آخر يمكن أن يتبناه تيار إسلامي، يتبنى القومية الإسلامية بديلاً عن القومية العربية، أو من دون إنكار لتمايز العرب، كقومية وأمة، في المحيط الإسلامي الكبير، بما يوجب قيام شكل من أشكال الوحدة بين العرب، باعتبار أن العروبة مضمون حضاري لا عرقي، واللغة هي أبرز مقوماتها كأمة، تتكلم بلسان واحد، أياً كانت السلالات التي تنحدر منها شعوبها وأقطارها وقبائلها وطوائفها.

وان الإصلاح الاقتصادي، يمكن أن يكون محوراً أساسياً ومهماً في التنافس بين الأحزاب، وأن تنويع مصادر الدخل القومي يمكن أن يكون هدفاً لهذا التنافس، باعتبار أن النفط مورد ناضب.

وأن نظام الضرائب ونظام الزكاة، هما نظامان يمكن أن تتحاور حولهما الأحزاب في برامجها، وقد تختلف الأحزاب التي تطالب بفرض نظام الضرائب في الكويت، بين الضرائب المباشرة وبين الضرائب غير المباشرة، بحسب تأثير الضرائب في الحياة الاقتصادية، في الأثمان وفي الاستهلاك وفي الإنتاج وفي توزيع الدخول، والأغراض غير المالية للضريبة في التوجيه الاقتصادي، وفي الإصلاح الاجتماعي، وأثر الضريبة غير المباشرة على محدودي الدخل.

وان التعليم والاختلاف بشأن مدخلاته ومخرجاته، وحول التعليم التطبيقي أو المهني أو الصناعي والتعليم العام، يجب أن يكون جزءاً من برامج الأحزاب، لتحقيق التنمية البشرية التي هي ثروة قومية لا تقل أهمية عن ثروة النفط.

وان الاختيار بين التأمين الصحي أو الضمان الصحي يمكن أن يكون رافداً من روافد التنافس بين الأحزاب.

وان أنظمة الضمان الاجتماعي والتأمينات الاجتماعية والمساعدات العامة يمكن أن تحتل حيزاً في برامج الأحزاب.

وان التجنيس يمكن كذلك أن يكون جزءاً من هذه البرامج، كما يمكن أن يكون توسيع المشاركة الشعبية في الانتخابات بخفض سن الانتخاب، أو بالاعتراف للعسكريين من رجال الجيش والشرطة بحق الانتخاب جزءاً من هذه البرامج.

ومن المؤكد أن هذه المحاور والحوار حولها وحول غيرها يجب أن يبدأ بين الجماهير، وبين الطلاب في ساحة الجامعة وفي اتحادات الطلاب ومنظمات المجتمع المدني، قبل إنشاء الأحزاب، حتى لا تأتي هذه الأحزاب وبرامجها من فراغ، بل من قواعد شعبية تؤمن بهذه البرامج وتلتف حولها وتسعى إلى إقامة الأحزاب التي تدعو اليها.

وتعتبر النقابات والروابط والجمعيات المهنية والنوادي وغيرها من جمعيات النفع العام جزءاً لا يتجزأ من منظومة المجتمع المدني، وهي جزء من ساحات الحوار، بالرغم من الحظر القانوني المفروض على اشتغال هذه المنظمات بالعمل السياسي، حيث تمكنت هذه المنظمات منذ وقت طويل من الإفلات من هذا الحظر، فقد خرجت أغلب التيارات والتكتلات الإسلامية من عباءة جمعية الإصلاح الاجتماعي وجمعية إحياء التراث الإسلامي والجمعية الثقافية الاجتماعية، كما أفرزت هذه الجمعيات والجمعيات التعاونية رموزاً في العمل البرلماني والنيابي.

إن ذلك يبدو ضرورة حتمية قبل نشوء الأحزاب في الكويت، خصوصاً أن برامج التكتلات والتيارات السياسية التي أعلنت عن قيام تجمعاتها في الساحة السياسية في الكويت أو في الساحة البرلمانية، لم تناقش هذه القضايا كافة، واقتصرت على الثوابت الأساسية التي قد تشترك جميعاً فيها، ولعل السبب في عدم مواجهة هذه القضايا بحلول جذرية في برامجها المعلنة، هو حرصها على تجميع أصوات الناخبين في كل انتخابات برلمانية، أيا كانت اختلافاتهم بشأن هذه القضايا.