Ad

هناك أحزاب نشأت في بعض الدول النامية، ولم تخرج من رحم البرلمانات، لعدم وجود هذه البرلمانات أصلاً في تلك الدول التي كانت تعاني نير الاحتلال الأجنبي، مما أدى إلى قيام نخب وطنية بإنشاء أحزاب اجتذبت الجماهير، حول قضية محورية هي تحرير الأرض والاستقلال.

في الجزء الأول من هذه الدراسة الموجزة عن حرية تكوين الأحزاب والمنشور على هذه الصفحة في 15 أكتوبر الجاري نقلنا إلى القارئ ما دار من مناقشات في المجلس التأسيسي بشأن قيام الأحزاب، وما انتهى إليه إجماع آراء الأعضاء بأن يترك قيام الأحزاب أو منع قيامها للقانون، حسب التطور الذي يصل إليه المجتمع، وفي الجزء الثاني المنشور على هذه الصفحة في 22 أكتوبر الجاري حاولنا الإجابة على سؤال عن أسباب نجاح التجربة الديموقراطية في غياب الأحزاب وفشلها في تجارب مماثلة.

ونخصص هذا الجزء من هذه الدراسة لإطلالة موجزة على التجارب الحزبية المختلفة في العالم، سواء تلك التي نجحت في منظومة التحول الديموقراطي والتوعية السياسية وإثراء العمل السياسي والأداء البرلماني، أو تلك التي أخفقت أو تقاعست عن القيام بهذا الدور.

وبادئ ذي بدء، فإن نظام الأحزاب، في أصل نشأته كان نظاماً إقليمياً، يدافع فيه نواب الإقليم عن مصالحه، من خلال تجمعهم ولقاءاتهم الدورية المنظمة، ثم تطور هذا المفهوم، عندما انضم نواب الأقاليم الأخرى إلى هذا التجمع، لشعورهم بالعزلة ولدفاعهم عن مصالحهم أيضاً، وهي المجموعات البرلمانية الإقليمية التي صاحبت نشأة الجمعية التأسيسية الفرنسية عام 1789.

أي أن الأحزاب وُلدت من رحم البرلمان لتقوم بدور المعارضة المنظمة للدفاع عن مصالح إقليمية داخل الدولة الواحدة، ثم كان التطور الذي وصل إلى ما نشاهده الآن، من حرص دساتير الدول الديموقراطية على النص على أن النائب يمثل الأمة بأسرها.

بيد أن ذلك لم يكن نمطاً واحداً في نشأة الأحزاب، فقد أدت الثورة الصناعية إلى بروز الأحزاب العمالية التي أنشأتها أو انخرطت فيها النقابات العمالية، دون أن تنفصل هذه النشأة عن رحم البرلمان، حيث نشأ حزب العمال البريطاني كمنظمة انتخابية برلمانية بقرار أصدره مؤتمر النقابات العمالية في بريطانيا عام 1899.

ولم يقتصر الأمر على الثورة الصناعية التي أدت الى ظهور كثير من الأحزاب الغربية، بل ساهمت التعاونيات الزراعية والمهنية للفلاحين في نشأة أحزاب الدول الإسكندنافية ووسط أوروبا، وسويسرا، وأستراليا، كما أسس رجال الأعمال بالمقابل أحزابهم مثل الحزب الكندي المحافظ عام 1854.

إلا أن أحزاباً أخرى، وعلى الأخص في بعض الدول النامية، لم تخرج من رحم البرلمانات، لعدم وجود هذه البرلمانات أصلاً في تلك الدول التي كانت تعاني نير الاحتلال الأجنبي، مما أدى إلى قيام نخب وطنية بإنشاء أحزاب اجتذبت الجماهير، حول قضية محورية هي تحرير الأرض والاستقلال، فالاحتلال البريطاني للهند أدى إلى نشأة حزب المؤتمر، والاحتلال البريطاني لمصر أدى إلى نشأة الأحزاب المصرية، بدءاً بالحزب الوطني وحزب الأمة عام 1907، ثم حزب الوفد الذي أُنشئ في أعقاب ثورة 1919، وقد اتخذ مسماه من الوفد المصري الذي سافر برئاسة سعد زغلول للمطالبة بالجلاء والاستقلال والدستور.

ولم يكن الدين بعيداً عن نشأة بعض الأحزاب، قبل قيام الحركات والأحزاب الإسلامية بزمن بعيد، حيث نشأت أقدم الأحزاب الكاثوليكية في بلجيكا وهولندا في أحضان الكنيسة الكاثوليكية وبرعايتها.

ولم يقتصر الأمر في النطاق العقائدي على ظهور الأحزاب المسيحية في أوروبا، بل ظهرت كذلك أحزاب اليمين المتشدد، لترث من الأحزاب المسيحية، وإن اختلفت عنها، العداء للمسلمين، وللأجانب بوجه عام.

كما نشأت بعض الأحزاب المسيحية كردة فعل لظهور الأحزاب الشيوعية وأحزاب اليسار الاشتراكية، وهي الأحزاب التي وصل بعضها إلى سدة الحكم في فرنسا لأول مرة عام 1936، ثم مرة أخرى عام 1981.

إلا أن الحزب الشيوعي الإيطالي لم يستطع الوصول إلى الحكم، رغم أنه كان أقل التزاماً من اليسار الفرنسي بالنظريات الماركسية واللينينية، كما أجبر الواقع الرئيس فرانسوا ميتران في الفترة الأولى من حكمه (81 - 1987) على مراجعة برنامجه التأميمي، بعد أن فشل هذا البرنامج في حل مشاكل المجتمع الفرنسي، مما أدى إلى قيام مظاهرات صاخبة في الشارع الفرنسي.

وخلاصة القول إن الأحزاب العقائدية فقدت بريقها، واضطرت إلى التعامل مع الواقع الاقتصادي والسياق الاجتماعي بفكر أكثر انفتاحا وإدراكاً لمختلف الظروف التي تهيمن على المجتمع.

وهو ما حدث أيضاً حتى بالنسبة إلى الأحزاب الإسلامية التي وصلت إلى سدة الحكم في تركيا، فقد تراجعت عن برنامجها العقائدي لتتعامل مع الواقع.

كما كان لانهيار الاتحاد السوفييتي وتفككه إلى أكثر من دولة، في اتحاد تشاوري يكاد يماثل الكومنولث البريطاني، أثره في سقوط أو ضعف وتراجع الأحزاب الشيوعية في أوروبا الشرقية، وفي التراجع العقائدي للأحزاب الشيوعية في غير ذلك من أرجاء العالم، والانفتاح على النظام الرأسمالي واقتصاد السوق، وإلى انقسام بعض هذه الأحزاب، مثلما حدث للحزب الشيوعي الإيطالي، والذي انقسم إلى تيارين، تيار الأغلبية وتيار الأقلية، غيَّر التيار الأول مسماه إلى حزب اليسار، وبقي التيار الثاني على اسمه القديم.

وكان للأعراف والقبائل والجماعات الإثنية دورها في نشوء بعض الأحزاب، ولاسيما في بعض الدول الأفريقية، مثل الكاميرون، والتي يمثل فيها حزب الحركة الديموقراطية شعب البتاني والباهوين في ولايات الوسط والجنوب والشرق، وحزب الأنغلوفون والذي يمثل المناطق المتحدثة بالإنكليزية في البلاد، وحزب الاتحاد الوطني من أجل التقدم، والديموقراطية والذي تسيطر عليه جماعات الفولبي، وهو حزب الشمال المسلم، وفي روندا كَوَّنت قبيلة التوتسي حزب الجبهة الوطنية في صراعها مع قبيلة الهوتو.

كما نشأت بعض الأحزاب بقرارات فوقية، غايتها إضفاء الشرعية على نظام الحكم في بعض الدول، أو الأخذ ببعض مظاهر الديموقراطية، وفق مفهوم الربط بين النظم الديموقراطية والأحزاب، وهو مفهوم لا يصدق في كثير من التجارب الحزبية، التي تغيب عنها الأحزاب الفاعلة والمؤثرة وتزيد فيها الأحزاب الهشة إلى جوار حزب واحد مهيمن ومسيطر، يحتل السلطة وحده عبر انتخابات يتم تزييفها، ولا يتداولها مع غيره.

ونعتقد أن الإطلالة السريعة السابقة على التجارب الحزبية في العالم وظروف نشأتها والواقع الذي فرضها، كان مقدمة ضرورية لفهم موقع الكويت على الخريطة السياسية للأحزاب، وهو ما سنحاوله في المقال القادم والأخير في تلك السلسلة بإذن الله.