جذبت مقامات الحريري بروعتها وجمال أسلوبها اهتمام المصورين الذين بادروا إلى تزيين مخطوطاتها وتمثيل قصصها بالرسوم، ولم يحظَ كتاب عربي بمثل ما حظيت به هذه المخطوطات من عناية.لا جدال في أن فن القصة القصيرة مدين في نشأته الأولى بالكثير إلى فن المقامات الذي ابتكره الأدب العربي في نهاية القرن الخامس الهجري (11م) على الأرجح، والرائد الحقيقي لفن المقامات هو بلا شك «أبومحمد القاسم بن علي الحريري» الذي ألف كتاباً نُسب إليه هو «مقامات الحريري»، وهو يحتوي على خمسين مقامة أو قصة قصيرة، وقد أهدى هذا المؤلف البديع إلى الوزير أنوشروان بن خالد وزير السلطان محمود بن محمد بن ملكشاه السلجوقي والذي تحكم في شؤون الخلافة العباسية على أيام الخليفة المسترشد بالله، وكان ذلك في بعض سنوات الربع الأول من القرن السادس الهجري (12م).
وتؤلف المقامات مجموعة من القصص القصيرة ذات الطابع الخاص يحكيها أحد أثرياء العرب وهو «الحارث بن همام» ويذكر في كل واحدة منها حادثة شاهدها بنفسه وكان بطلها رجل يدعى «أبا زيد السروجي».
وتبدو هذه الشخصية في مقامات الحريري في صورة شيخ احترف الأدب ثم ضاقت به سبل العيش فغادر بلدته «سروج» في أعالي الفرات وراح يحتال على الناس أينما حل، مفيداً من مهاراته الأدبية وفي روح ملؤها الدعابة والمرح مع الإشارة الساخرة إلى ما في المجتمع من المساوئ والعيوب.
ويعتقد بعض العلماء أن هذه المقامات ليست سوى صورة مهذبة ومحررة من قصص خيال الظل التي صنعت لتسلية الجمهور غير المثقف، ولذلك لم تُدون. ومنذ قام الحريري بكتابة مقاماته أخذت تمثيليات خيال الظل التي أنتجت بعد ذلك تستلهم وقائع هذه المقامات.
ومهما يكن من أمر الأجواء التي أحاطت بظهور المقامات فقد جذبت بروعتها الأدبية وجمال أسلوبها ولطف دعابتها اهتمام المصورين فعنوا بتزويق مخطوطاتها وتمثيل قصصها بالرسوم، حتى يمكن القول بأنه لم يحظَ كتاب عربي بما حظيت به هذه المقامات من عناية الخطاطين والمصورين.
ويظهر أن السبب وراء تعدد النسخ المخطوطة من هذا الكتاب كان تقدير النخبة المثقفة للإبداع اللغوي فيه كما أنه يهيئ بطلاً شعبياً هو «أبوزيد» الواسع المعرفة المتشرد المحتال الذي عاش بذكائه واستطاع باستخفافه البارع بالقانون الأخلاقي الرسمي أن يتغلب على صعوبات الحياة.
ولعل الحريري قد استوحى هذه الشخصية من قصص الشطار والعيّارين الذين انتشروا في بغداد وغيرها من مدن الشرق الإسلامي في أواسط القرن السادس الهجري (12م) حيث حاولوا أن يطبقوا شكلاً متساوياً من العدالة الاجتماعية وذلك عن طريق الدعوة إلى المساواة في الملكية ومقاومة الجهود التي تبذلها الحكومات للمحافظة على النظام.
ومن أقدم المخطوطات المعروفة لكتاب مقامات الحريري نسخة مؤرخة بعام 619هـ (1222ـ1223م) وتضم هذه المخطوطة المحفوظة بالمكتبة الأهلية بباريس 39 صورة، وتليها مخطوطة ثانية في المكتبة ذاتها ولكنها مؤرخة في الربع الثاني من القرن السابع الهجري (13م) ومن أهم محتوياتها صورة تمثل السروجي وهو يغادر الحارث أثناء الحج وذلك ضمن الأحداث التي ورد ذكرها في المقامة الحادية والثلاثين.
وفي مكتبة فيينا الوطنية مخطوط من المقامات نسخة «أبوالفضل بن أبي إسحق» والشخصيات فيها تملأ بقاماتها المديدة مقدمة الصورة وقد اعتمرت العمامات المتعددة الطيات والملابس العربية التقليدية المزدانة بشتى أنواع الزخارف البنائية والهندسية الشائعة في الفن الإسلامي، والوجوه جميعها بيضاوية الشكل ولها عيون لوزية بينما تنسدل الشعور من خلف العمامات وتتراوح ألوان اللحى بين الأسود والأشهب والبني المحمر وهو ما يعكس اختلاف المراحل السنية للأشخاص وكذا تباين أصولهم العرقية.
وثمة مخطوطات أخرى متفرقة من كتاب مقامات الحريري، منها واحدة في اسطنبول وأخرى في باريس تؤرخ في الفترة التي عاش فيها المستعصم بالله آخر الخلفاء العباسيين، قبل أن يقتل على أيدي المغول في عام 656هـ، بيد أن أهم المخطوطات التي وصلت إلينا من المقامات هى تلك المخطوطة المعروفة باسم «شيفر حريري» نسبة إلى مالكها الأصلي «شيفر» وهى محفوظة في المكتبة الأهلية بباريس، وتعتبر الأكثر شهرة بين المخطوطات المتعددة لمقامات الحريري، ومن أهم تصاوير هذا المخطوط تلك التي تمثل راعياً وقطيعاً من الإبل؛ حيث صور الفنان منظراً ريفياً يقف فيه شخص إلى جوار عشر من النوق على أرضية رسمت على شكل خط عريض باللون الأخضر تخرج منه بعض النباتات المحورة وقد وفق المصور في التعبير عن جموع الإبل وحركاتها حيث نشاهد حركة رقابها المرتفعة إلى أعلى في حين نرى اثنتين منها منهمكتين في قضم الحشائش والأعشاب في أسفل الصورة.
وبالجملة تعد مقامات الحريري بمادتها الأدبية ذات الصبغة الاجتماعية والسياسية وبصورها ذات الطابع الواقعي من أهم كنوز المعرفة بالتاريخ الاجتماعي للمجتمع الإسلامي الوسيط.