الموسيقى القادمة من هناك
الديموقراطية كما يرى ساسة أميركا لم تحقق ما جاءوا من أجله، ولم تفعل الفعل الذي أرادوه؛ فقد مزقت العراق إلى أمد غير معلوم، وجعلت منه محطة لتفريغ العنف، وقتلت من العراقيين ما لا يعد ولا يحصى، كما قتلت من الأميركيين أعداداً بلغت حتى يوم أمس 3842 وجرحت ما يزيد على الـ20 ألف، وكلفت الموازنة الأميركية ما يزيد على نصف تريليون دولار، إضافة إلى التكلفة السياسية.
مع سقوط الاتحاد السوفييتي ونهاية الحرب الباردة ودخول العديد من الدول في «المحيط الديموقراطي» شكلياً على الأقل... بدأ التنازل عن دعم الدول القمعية الصديقة للغرب والولايات المتحدة... وفي غفلة من الزمان، أو فلنقل لحظة «شبق غيبية»، انطلق قطار معطوب على سكة حديد متصلة تحت عنوان دعم الديموقراطية وتسويقها إلى دول العالم الثالث. وتم في الولايات المتحدة رصد ميزانيات لهذا الغرض، ولكنها لم تكن تلك السياسة التي اعتاد عليها صانعو القرار... فقد اعتادوا التعامل مع «الأوغاد»، فهم على أي حال «أوغادنا»، وخير لك أن تتفاهم مع وغد تعرفه على أن تتفاهم مع ملَاك لا تعرفه.تلك السياسة تعرضت للتفكك والكساح... وبدأ التراجع عنها بصورة مختلفة، الامر الذي سهل المهمة على أولئك الذين كانوا قد قبلوا على مضض بسياسة الضغط على الدول القمعية ولسان حالهم يقول «نحن نعرف الانتقائية جيداً ولا مكان للمثالية في السياسة». فالأوغاد الذين نعرفهم مضمونو الأداء ورحم الله امرأً عرف قدر نفسه.وهكذا أصبح دعم الديموقراطية محل تساؤل، والدعوة للعودة الى المربع رقم واحد وتفعيل السياسة الواقعية بدلا من المثالية، وظهرت أصوات عالية تدفع في هذا الاتجاه دفعاً وبالذات في الولايات المتحدة، كفريد زكريا وكابلان وسنايدر وغيرهم. حيث بدا أن سياسة دعم الديموقراطية، التي انطلقت من فرضية الفرصة السانحة لفتح آفاق المجتمعات نحو مزيد من المشاركة السياسية وإعطاء أهمية خاصة للشرق الأوسط في هذا الصدد بمقتضى برنامج (MEPI)، وافترضت أن إحدى الوسائل الأهم للقضاء على الإرهاب إنما تتحقق بدعم الديموقراطية، قد بدأت مراجعتها ان لم يتم التخلي عنها.وقد كان واضحاً أن مأساة العراق الراهنة التي فتحت باب الاحتمالات على مصراعيه، هي التي دقت ناقوس الخطر بالنسبة إلى بعض المفكرين والساسة في أميركا ومن حولها، فالديموقراطية كما يرون لم تحقق ما جاءوا من أجله، ولم تفعل الفعل الذي أرادوه؛ فقد مزقت العراق إلى أمد غير معلوم، وجعلت منه محطة لتفريغ العنف، وقتلت من العراقيين ما لا يعد ولا يحصى، كما قتلت من الأميركيين أعداداً بلغت حتى يوم أمس 3842 وجرحت ما يزيد على الـ20 ألف، وكلفت الموازنة الأميركية ما يزيد على نصف تريليون دولار إضافة إلى التكلفة السياسية. ولم يكن الوضع أحسن حالاً في فلسطين أو في مصر؛ فعناصر التطرف، كما تراها الولايات المتحدة، هي التي تفوقت انتخابياً.ويبدو أن حكام المنطقة بخبرتهم وحنكتهم في البقاء أطول مدة ممكنة قد التقطوا تلك التحولات، وباتوا يطورون أجهزتهم ويكثرون من الأجسام الشكلية للديموقراطية للتصدي لأي ضغوط خارجية وهكذا تصبح ابتسامة الحاكم وإطلالته «البهية» على شعبه «أريحية ديموقراطية» ويصبح رضاه على شعبه والتفاته، نزولا عند رغبة الجماهير، بل يصبح فوزه في انتخابات عامة يكون فيها مرشحاً أحادياً بنسبة تفوق 90% مكسباً ديموقراطياً، وتصبح اجراءاته المتسامحة وعفوه عن عدد ممن عبروا عن رأيهم سلمياً، انفتاحا ما بعده انفتاح. أما في الانتخابات فيعطي النظام أفضلية لمن يصوت بالدم.وهكذا تتحول الديموقراطية إلى مسرحية هزلية أو كوميديا سوداء يستخدمها الحاكم وأجهزته ويصفق لها المثقفون والمحللون ويبررون لها.ويتناغم ذلك الهزل مع التوجهات الجديدة، وتصبح الديموقراطية مجرد شكل بلا محتوى ولا معنى. وتصبح التوجهات الجديدة ألحانا موسيقية شجية يطرب لها المتسلطون ويفرح بها الواقعيون... ولتذهب المنطقة وشعوبها إلى الجحيم.