اختلاط غير خلاق بين الدولة والشعب!

نشر في 09-09-2007
آخر تحديث 09-09-2007 | 00:00
 د. محمد السيد سعيد

ثقافة المحكومين صارت تشمل أيضا الوصول إلى الحكم للإثراء المبكر منه، واليوم يأتي أغلب الحكام من أوساط شعبية... بمعنى فقيرة أو متوسطة الحال وما إن يصلوا إلى الحكم حتى يتصرفوا مثل، أو أسوأ، من الأغنياء حتى تجاه أسرهم نفسها.

إذا كانوا يلعبون الكرة برؤوسنا فهم يسمحون للناس باللعب في هيبتهم، والشعوب العربية بالذات لا تلعب الكرة وسلاحها الماضي فعلا هو النميمة، ورغم أن الشعوب لا «تزعل» كثيراً، بل تتعاون بحمية في اللعب برؤوسها، فالحكومات لا تبادلها هذه الأريحية وتتشاءم وتغضب أو على الأقل تتبرم وتظهر أسنانها الحامية حتى تجاه ما صار يعرف في الشبكة الالكترونية بـ«التشات» أي الثرثرة وأكثرها «فاضي». وكان الرئيس الراحل أنور السادات يحب كثيراً القول إن «الديموقراطية لها أسنان» ولم يكن هناك ديموقراطية واستمرت الأسنان مثل قواطع الورق تأكل بالطن، ولكن في لحم المجتمع ولأتفه الأسباب، واليوم تبرز هذه الأسنان من جديد بمناسبة ما تجرأت عليه الصحف المستقلة في مصر: أي مناقشة صحة الرئيس. والجديد أن جيشاً كاملا أظهر أسنانه في مشهد «مهيب» أعني مهيباً مثل «المهيب الركن» إياه «أسد عليّ وفي الحروب نعامة» أو لا شيء إطلاقا، المهم هنا أن جيوش غير الرسميين أصبحت أكبر وأطول لساناً وأسناناً من الرسميين في النَّيل من الحريات العامة ومنها حرية الصحافة.

السر في كل ذلك مثل شِفرة دافنشي قد لا نعرفه إلا في نهاية الرواية، ولا أحد يعرف متى تنتهي لأنها تتداعى في الواقع مع تموجات أزمة ثقافة سياسية لا مجرد أزمة سياسية عابرة، يمكن الحديث عن «إحداثيات الشفرة»، إحدى هذه الإحداثيات هي اختلاط الثقافات، وليس الصدام بينها، كما يرى هنتنغتون وشركاه، ما أعنيه هنا تحديدًا هو اختلاط «ثقافة الحكومة» و«ثقافة العامة».

هذا المرض ليس عربياً، بل إن نشأته الحقيقية جاءت للأسف مع الديموقراطية... ليس بالضبط... جاءت للأسف مع ما يسميه علماء السياسة والاجتماع بالمجتمع الجماهيرى... أو جاءت للأسف مع، أو من، الأعماق المثيرة للنفس الإنسانية. من أين جاءت لا يهم، المهم أنها زادت كثيراً خلال ربع القرن الماضي.

بعض مظاهر الاختلاط بين ثقافة الحكم وثقافة المحكومين طريف للغاية، اقرأ مثلا: بنى الألمان هرم مدينة «ديساو» العملاق لكي يدفن فيه من يشاء دفناً فرعونياً أي ملكياً! مقابل مبلغ بسيط من المال بالمعايير الأوروبية طبعاً. نقول في الحكمة العربية «عشم إبليس في الجنة». فهم لن يحصلوا، أو بالأحرى لن يحصل أهاليهم، على الطقوس الجنائزية المصرية القديمة، حتى لو بنوا جانب الهرم الألماني شيئاً مماثلاً لمراكب الشمس العظيمة، فلن يحصلوا هناك على الشمس نفسها إلا لماماً.

الطريف هو أن المحكومين يريدون مباراة الحكام في ما يفعلونه وما يتمتعون به، وكانت حكاية سندريللا تعبيراً مبكراً عن هذا التوق العميق وسط الفقراء للامتزاج بالنبلاء... وأغلبهم لم يكونوا نبلاء... ولا حاجة، اليوم صارت قصص سندريللا شائعة للغاية وأغلب «قصص الحب» أو بالأحرى الأفلام التي أخذت هذا الاسم، تنادي هذه النزعة.

غير الطريف هو أن ثقافة المحكومين صارت تشمل أيضا الوصول إلى الحكم للإثراء المبكر منه، واليوم يأتي أغلب الحكام من أوساط شعبية... بمعنى فقيرة أو متوسطة الحال وما إن يصلوا إلى الحكم حتى يتصرفوا مثل، أو أسوأ، من الأغنياء حتى تجاه أسرهم نفسها، وكان وصول الفقراء إلى الحكم في الماضي نموذجاً أعظم بكثير، ومازالت تمثل شيئاً أقرب للأساطير حتى في الولايات المتحدة التي لم تشهد إقطاعاً حقيقياً ولا طبقة نبلاء متناسلة عبر التاريخ. الرئيس ابراهام لينكولن جاء من أصول فقيرة للغاية ويعد المثل الأعلى لأغلب الأميركيين الذين يؤمنون بالمساواة، وهذا طريف.

ليس طريفاً بالضبط ما فعله هؤلاء الذين جاؤوا من أصول فقيرة ليعبروا عن مصالح الاحتكارات العملاقة في بلادهم وبلاد غيرهم أيضا، ومن النماذج السيئة في هذا المعنى كل من تاتشر وريغان اللذين تحدرا من أصول فقيرة ولم يشغل بالهما أثناء الحكم سوى منح الامتيازات للأغنياء وتصفية نظم الأمان الاجتماعي للفقراء.

والأكثر سوءاً بكثير أن يصعد رجال الحكم من أصول فقيرة لكي يجمعوا الثروات من «خصخصة ثروات بلادهم» وهو ما نسميه بالفساد، وأغلب رجال الحكم في أكثر البلاد العربية اليوم جاء من أصول فلاحية أو بدوية بسيطة، وقد اشتهر عن رئيس عربي أنه أجاب مبعوثيه في الخارج عندما سألوه عن انتشار الفساد وبقاء القيادات فترة طويلة في الوظائف السياسية العامة «أنهم شبعوا» بينما الجدد «سيحتاجون الى أن يشبعوا»، وهي إجابة عبقرية عن سؤال الفساد، وعشم بعيد جداً في إنهائه، ولست متأكداً بالطبع من صحة الرواية لأن المبعوثين كائنات غاضبة في المتوسط، ولكن الأمثلة الواقعية تعطيها حكائية كبيرة.

اختلاط الثقافتين

وليس هذا كله سوى جانب بسيط من اختلاط، وأحيانا «تمازج»، ثقافة الحكم مع ثقافة العامة، والأفضل أن نسمي الأخيرة «ثقافة الحشود»، واليوم نجد أمثلة كثيرة لرجال ونساء حكم لا تزيد ثقافتهم أبداً عن أكثر الناس بساطة (تعبير مهذب عما أعنيه فعلاً أي تفاهة- ويمكنك أن تتجاوز هذه الكلمة إن كنت بالغ التأدب). وكان هذا الجانب هو ما دعا كثيراً من الفلاسفة والمبدعين الأوروبيين مثل ت.اس. إليوت البريطاني وسان جون بيرس الفرنسي واليوم ريتشارد شتراوس مفكر المحافظين الجدد لإظهار العداء للديموقراطية باعتبارها «سلطة العامة».

غير أن اعتقاد هؤلاء أن «النبلاء» أكثر وأوسع ثقافة وأعمق إدراكاً لمهام ووظائف الملك ومسؤولياته، أي ثقافة الحكم، ليس صحيحاً على الإطلاق الآن، بل لم يكن صحيحاً في أي وقت، وأغلب «النبلاء» في التاريخ كانوا من الناحية الثقافية وبالطبع من الناحية الأخلاقية أقل من رعاع، والجديد اليوم هو أن الإعلام صار يتيح المعرفة بهذه الشخصيات على أوسع نطاق، بينما كانت ممارساتهم المبتذلة في الماضي محاطة بالسرية أو على الأقل غير معروفة إلا للأوساط التي يختلطون بها، وحكم بلاد كبيرة حتى في أوروبا ملوك وقياصرة كانوا أبسط ذهناً من أبسط الفلاحين، بل كان بعضهم معتوهاً تماماً.

وما نتحدث عنه اليوم يختلف عن هذه النماذج التاريخية في أمر أساسي، أي شيوع ثقافة للحكم نسميها في علوم السياسة بالشعبوية، هنا ينصح الحكام بأن يتقربوا من المشاعر والأمزجة السائدة في القاعدة العريضة، أو بالأحرى الأعلى صوتاً، في الأوساط الشعبية حتى يرسخوا الاعتقاد بأنهم غير منفصلين عن الشعب، وصار من المهم للسياسي الذي يريد النجاح في الانتخابات العامة أن يتحدث بلغة عامية ويستخدم التعبيرات العامية التهكمية، وأحيانا ما نسميه باللغة المبتذلة، والأهم أن هؤلاء السياسيين يجدون إغراءً أو انجذاباً أو اندفاعاً شديداً لممارسة السياسة بطريقة «تعجب» العامة. ومن الممارسات الشائعة في هذا الاطار حضور المباريات الرياضية الشعبية والهتاف والتشجيع بطريقة لا تختلف عن «أولاد الشوارع».

وترتب على ذلك أن بعض ممارسات الحكام في بعض البلاد غير الديموقراطية على السواء تنزل بثقافة الحكم إلى الحضيض من حيث حس المسؤولية، فيقومون مثلاً بضرب معارضيهم بالمعنى البدني (عن طريق الأجهزة السرية طبعاً) أو الانتقام الشخصي منهم في أرزاقهم أو في أولادهم أو إذلالهم أو إهانتهم أو تعذيبهم بأوامر شخصية من أعلى المستويات.

هنا تنزل «الدولة» من عليائها لتصبح «بنت شوارع» بالمعنى الحرفي للكلمة وتتساوى الرؤوس، رؤوس الدولة مع رؤوس الأشخاص، وللأسف استمعت إلى واحد من أبرز العقول العربية التي ثقفت وبهرت ملايين من الناس يقول «في أيام عبدالناصر كانت الدولة تصفعني على وجهي فأشعر بالرهبة، واليوم لا تصفعني الدولة، ولكني أكن لها مشاعر الاشفاق»! والتعبير الأخير مخفف لما قاله فعلاً.

كل ما حدث أن الدولة صارت تضرب غيره وأكثرهم من الشباب الذين لم يكوّنوا شهرة، وبعضهم من أشهر الناس وأكثرهم تمتعاً بالاحترام العام، ويشكل هذا النمط من السياسة ظاهرة «الدولة العيل»، وهي تحول مهم عما أسماه بعض علماء الاجتماع العرب باسم «الدولة المعيلة»، اختلطت الأمور ووقع اختلاط غير خلاق بين ثقافة الحكم وثقافة العامة وعلى نحو لا يتحمله العقل والوجدان السليم.

* كاتب مصري

back to top