على الدول العربية كلها، خصوصاً دول الخليج العربي والدول المحاذية للعراق أن تدرك أن استهداف شيعة العراق وشيعة بعض هذه الدول، هو بمنزلة صبِّ الحَبِّ في الطاحونة الإيرانية، وهو بمنزلة جعل الخيار الإيراني الخيار الوحيد أمام أبناء هذه الطائفة الكريمة.قام السفير الأميركي في بغداد ريان كروكر خلال الأسبوع الماضي بجولة قادته إلى عدد من الدول العربية، من بينها الأردن وبعض دول الخليج العربي، وقد التقى في هذه الدول التي زارها من دون إعلان بعض رؤساء الحكومات السابقين وبعض من كانوا في مواقع المسؤولية، إذ استمع منهم إلى وجهات نظرهم بالنسبة إلى هذه المنطقة وأسمعهم بعض ما يعتبره حقائق غير معروفة حول ما يجري في العراق.
في هذه اللقاءات أكد كروكر أن الأوضاع الأمنية في العراق في تحسّن متواصل، وقال إن الوجود الأميركي في هذه الدولة العربية باقٍ، وإنه لن يتأثر بنتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية، سواء جاء الفوز إلى جانب الجمهوريين أم جاء إلى جانب الديموقراطيين، وهذه مسألة معروفة إلا بالنسبة للمصابين بعمى البصر والبصيرة الذين لم يدركوا بعدُ أنّ مجيء الأميركيين بجيوشهم إلى هذه المنطقة لم يكن هدفه الرئيسي التخلص من صدام حسين ونظامه، إنما كجزء من السعي إلى إقامة النظام العالمي الجديد بعد انهيار نظام صراع المعسكرات والحرب الباردة.
وبالطبع فإن السفير الأميركي كروكر تطرق إلى مسائل متعلقة بالعراق ومستقبله والمنطقة ومستقبلها، وهي كثيرة لكن أهم ما قاله في لقاءاته هذه المشار إليها هو أن هناك تحولات مشجعة في أوساط عرب الطائفة الشيعية على غرار التحولات المشجعة المتلاحقة في أوساط عرب الطائفة السنيّة التي بدأت بـ«صحوة» عشائر الرمادي وامتدت بسرعة إلى كل مناطق المثلث السني الذي شكل القاعدة الرئيسة لزعزعة الأوضاع الأمنية ومناكدة الأميركيين والدولة الجديدة.
وحقيقة، إن ما قاله كروكر على هذا الجانب صحيحٌ ومهم، فالشيعة العرب وكل الشيعة في العراق عرباً وأبناء قبائل وعشائر عربية أصيلة وتاريخية وعريقة، لم يعد بإمكانهم تحمّل الوجود الإيراني الذي غدا طاغياً، والذي تسلل إلى كل مناطق الجنوب العراقي من بين أصابع المحتلين الأميركيين، ومن خلال بعض الميليشيات التي تشكّلت في سنوات سابقة في معسكرات الحرس الثوري الإيراني التي عادت بعد الغزو الأميركي وهي محشوة بأحقاد ثأرية قديمة لم يعرفها العراقيون من قبل، خصوصاً أبناء هذه الطائفة الكريمة.
في البدايات، أي في فترات ما بعد سقوط نظام صدام حسين، سادت فترة ضبابية ورمادية استطاع الحرس الثوري الإيراني باستخباراته ومخابراته وبـ«فيلق القدس» تشكيل قوة رئيسة مسيطرة في مناطق الجنوب معتمداً على ميليشيات «جيش المهدي» في الأساس وعلى «فيلق بدر» قبل أن تنتقل إليه وإلى المجلس الأعلى للثورة الإسلامية عدوى «صحوة» أهل العراق ضد ما يسمونه «النفوذ الفارسي» الذي تسلل إلى بلادهم بأساليب مختلفة أهمها «المال» والشعارات الإسلامية الثورية الجميلة.
في الفترة الأخيرة بدأت الأمور تتغير وبات أبناء القبائل والعشائر العربية الشيعية غير قادرين على الاستمرار في تحمّل الاستفزازات الإيرانية وتجاوزات حراس الثورة وفيلق القدس الموجهة ضد العرب والمستهزئة بالعروبة، وهذا يجب أن يفهمه ويدركه سنّة العراق الذين يعرفون أنه من غير الممكن الحديث عن عراق عربي وعروبي من دون الطائفة الشيعية الكريمة التي بقيت تشكل على مدى حقب التاريخ سدّاً منيعاً ضد المد الصفوي الذي حقق في السنوات الأربع الأخيرة اختراقات خطيرة في معظم المناطق العراقية.
لذا فإنه على الدول العربية كلها خصوصاً دول الخليج العربي والدول المحاذية للعراق أن تدرك أن استهداف «الشيعة»، شيعة العراق وشيعة بعض هذه الدول، هو بمنزلة صبِّ الحب في الطاحونة الإيرانية، وهو بمنزلة جعل الخيار الإيراني الخيار الوحيد أمام أبناء هذه الطائفة الكريمة الذي لا خيار غيره... لا يجوز تسهيل مهمة غلاة المتطرفين الإيرانيين الذين يقومون بكل ما يقومون به وتحت الرايات الإسلامية الجميلة من أجل إحياء أمجاد الإمبراطورية الفارسية التي وصلت خيول فرسانها إلى مصر واليمن، والتي عبـَر نفوذها البحر الأبيض المتوسط ووصل إلى دولة الهيلينيين القديمة.
* كاتب وسياسي أردني