كان الطريق العلماني إلى فصل الدين عن الدولة أمام حزب العدالة والتنمية المغربي وعرا وشاقا، بل غير مفكر فيه. ولم يستطع هذا الحزب أن يأتي بجديد واقعي يختلف عما رفعه الإخوان المسلمون من شعارات في مصر في الانتخابات التشريعية الأخيرة، في حين كان الطريق ممهدا لـ حزب العدالة والتنمية في تركيا لأن يتبنى العلمانية.وعدنا القراء الكرام في الأسبوع الماضي الإجابة عن سؤال:
لماذا وصل حزب العدالة والتنمية التركي إلى كرسي الحكم، وفشل حتى الآن حزب العدالة والتنمية المغربي، رغم أسبقية الحزب المغربي في العمل السياسي الديني، ورغم أنه المُعلِّم للحزب التركي، وأخيرا رغم أن الحزبين يعملان تحت شعار واحد، وهو شعار المصباح الهادي إلى سواء السبيل؟!
ولكن قبل الإجابة عن هذا السؤال، علينا أن نعلم جيدا الفروق الكبيرة بين التاريخ الإسلامي المغربي والتركي، وبين نظام الحكم في المغرب وتركيا، وبين المرجعية السياسية في المغرب وتركيا، وأخيراً بين علاقة الشعب المغربي بالإسلام السياسي وعلاقة الأتراك بالإسلام السياسي أيضا.
فرغم أن الخلافة الإسلامية العثمانية دامت ثمانية قرون (1281-1924)، وحكمت باسم الإسلام معظم الأقطار الإسلامية حكما مباشرا، وحكمت البقية الباقية من العالم الإسلامي حكما غير مباشر، فإن العلمانية كانت أسبق في تركيا منها إلى أي بلد عربي/ إسلامي آخر وخاصة المغرب، وذلك للأسباب التالية:
1 - تاريخ الخلافة الإسلامية في المغرب الممتد منذ خمسة قرون تقريبا (1666-2007) إلى الآن مازال قويا ومُطاعا من قبل الأحزاب العلمانية في المغرب كحزب الاستقلال (حزب الأغلبية المُكلَّف الآن بتشكيل الحكومة) وحزب الاتحاد الاشتراكي وغيرهما. وكان ومازال ملوك العلويين وسلاطينهم في المغرب يلقبون بالخليفة حيناً وبأمير المؤمنين حينا آخر، كما هي الحال الآن مع الملك محمد السادس (أمير المؤمنين). وبهذا لم يتم فصل الدين عن الدولة في المغرب. بل إن الأسرة العلوية الحاكمة كانت ومازالت تستمد شرعيتها من الدين، ومن كونها من سلالة آل البيت، وليس من أي شيء آخر. في حين تم فصل الدين عن الدولة في تركيا في 1923 من خلال الثورة الكمالية فصلا تاما، وربما قاسيا (إغلاق بعض المساجد وتحويلها إلى متاحف، ومنع الحج لسنوات عدة، وإلغاء اللغة العربية .. إلخ) وهي الإجراءات التي أساءت في ما بعد إلى حركة العلمانية والحداثة العربية. حيث اعتُبرت ثورة كمال أتاتورك وإطاحته بالخلافة الإسلامية عام 1924 ثورة شيوعية، فيها إساءة واضحة ليس الى الخلافة العثمانية والى سلاطين بني عثمان، بقدر ما هي إساءة لا تغتفر الى الإسلام نفسه. في حين أن مثل هذه الإجراءات لم تجر في المغرب. وظل المغرب منذ خمسة قرون وحتى هذه اللحظة نظاما ملكيا يحكمه نظام ملكي من أعرق الملكيات في العالم. ولم تنجح الأحزاب المغربية العلمانية في الإطاحة بالخلافة الإسلامية العلوية، كما فعل كمال أتاتورك في تركيا. وكان الطريق العلماني إلى فصل الدين عن الدولة أمام حزب العدالة والتنمية المغربي وعرا وشاقا، بل غير مفكر فيه. ولم يستطع هذا الحزب أن يأتي بجديد واقعي يختلف عما رفعه الإخوان المسلمون من شعارات في مصر في الانتخابات التشريعية الأخيرة، وأبرزها ذاك الشعار العاطفي الديني البراق (الإسلام هو الحل) الخالي من المضامين السياسية والاقتصادية والاجتماعية، التي يمكن أن تؤدي إلى حلول لمشاكلنا المعاصرة والملحة. في حين كان الطريق ممهداً لـ حزب العدالة والتنمية في تركيا لأن يتبنى العلمانية، كما قرأنا في مقالاتنا السابقة، في الأسبوعين الماضيين، تحقيقا لمستقبل تركيا في الانضمام الى الاتحاد الأوروبي، الذي تسعى إليه منذ نصف قرن تقريباً، ولمّا يتحقق لها بعد.
2 - المرجعية السياسية في المغرب للقصر الملكي أو لـ «مخزن» أمير المؤمنين الذي يعيش حياة غربية، ويفكر تفكيرا عقلانيا غربيا، ولكنه مازال يحكم باسم أمير المؤمنين ضمانا لاستمرار الشرعية. والملك الشاب محمد السادس في واقع الأمر، لم يكن راغبا في هذا، ولكن يبدو أن المؤسسة الدينية المغربية هي التي أرادت، وتمنّت على الملك محمد السادس ذلك. ووافقها الملك، الذي أصبح ملك الجميع من إسلاميين وعلمانيين. وأصبح بهذا اللقب (أمير المؤمنين) قويا أمام المعارضة الدينية خاصة. في حين أن المرجعية السياسية في تركيا هي للمؤسسة العسكرية، التي حاربت، وأسقطت، ومنعت كل ما من شأنه أن يُعيد تركيا إلى عهد الرعايا والتكايا والخلافة الإسلامية قبل 1924. وهي التي إذا شمّت رائحة حكم ديني من بعيد، انتفضت وعارضت. وقد رأينا كيف أن المؤسسة العسكرية التركية كانت غير راضية عن نجاح حزب العدالة والتنمية في الانتخابات التشريعية الأخيرة، وكذلك فوزه بكرسي الرئاسة التركية. وقاطعت احتفال تنصيب الرئيس عبدالله غول. ورفض رئيس الأركان التركي مصافحته وتهنئته بمنصب الرئاسة، رغم أنه لم يبقَ من بُعد ديني لـ حزب العدالة والتنمية غير قطعة القماش التي تضعها خير النساء زوجة غول على رأسها كحجاب، وكإشارة على إسلاموية حزب العدالة والتنمية.
3 - علاقة الشعب المغربي بالإسلام علاقة عاطفية شاملة. فالغالبية العظمى من الشعب المغربي من الأرياف، حتى الذين يسكنون المدن الكبرى كالدار البيضاء والرباط ومراكش وطنجة وفاس ومكناس، هم ريفيو المعشر، والتفكير، والمعاش، والعقيدة الدينية. وهؤلاء متمسكون بالعرش العلوي وجذوره الدينية. ويؤمنون بأن العائلة العلوية الحاكمة عائلة دينية مباركة، وهم من آل البيت، ومن سلالة الرسول عليه السلام. لذا، فإن الإخلاص والولاء لهذه العائلة ديني أولا، وهو جزء من إيمانهم وانتمائهم الى الإسلام. ثم ان هذا الولاء سياسي ثانياً، لأن الشعب المغربي يدرك أن لا حاكما يستطيع حكم المغرب في ظل تنازع الأعراق (عرب وبربر) غير العائلة العلوية، ولهذا لم يثر الشعب المغربي ولم يخلع أعتى سلاطين وملوك هذه الأسرة بعد الاستقلال عام 1956. في حين أن علاقة الشعب التركي بالإسلام ليست علاقة عاطفية، بقدر ما هي علاقة واقعية براجماتية. فلا شك أن الشعب التركي قد ابتهج لسقوط الخلافة الإسلامية في تركيا العثمانية سقوطا فعليا غير معلن، بعد موت السلطان الأحمر السفاح عبدالحميد الثاني عام 1908، وسقوطا معلنا مدويا عام 1924. ثم استدار نحو أوروبا استدارة كاملة وطلب العضوية في الاتحاد الأوروبي الذي كان من ضمن شروطه، المحافظة على الفصل التام بين الدين والدولة، وبقاء تركيا دولة عَلمانية محضة. وهو ما حاولت الأحزاب السياسية المتعاقبة في النصف الثاني من القرن العشرين العمل له والمحافظة عليه، وبدعم كبير من المؤسسة العسكرية، رغم هزيمة تركيا الفاضحة في الحرب العالمية الأولى من قبل الحلفاء، التي تسعى تركيا الى التحالف معهم الآن. في حين ظلت كراهية المغرب لفرنسا وللغرب عموما تنطلق من منطلقات دينية أولا ككفار مكروهين شرعا، وكمستعمرين سابقين للمغرب، ولم يخرجهم من المغرب غير الكفاح الديني المقدس. ولم تستطع السنون الطويلة منذ أن نال المغرب استقلاله عام 1956 إلى الآن أن تُنسي المغاربة حقدهم على الغرب عموما وخاصة فرنسا وإسبانيا.
وفي الأسبوع القادم سنقارن بين الخطابين السياسيين لهذين الحزبين اللذين حملا مصباحا واحدا، وسلكا طريقا مختلفا، ونرى أين نجح الحزب التركي، وأين فشل الحزب المغربي؟
* كاتب أردني