تعالوا معي نفكر بصوت عال، ونتحدث «باللغة الجديدة» التي أدخلها كبار القوم إلى قاموس السياسة في لبنان، والتي لا علاقة لها بالسياسة أو التسييس منذ أن طلع علينا «ميكيافيللي» أو غيره بالنظرية الشهيرة «الغاية تبرر الوسيلة». لعل في ذلك ما يخفف ثقل الهموم عن الصدور التي يفصلها عن الانفجار ما هو ادنى من قاب قوسين.
لبنان أيام زمان يختلف عن لبنان اليوم في المظهر لا في الجوهر، تلك حقيقة يكتشفها كل من يحاول أن يغوص في اعماق المشكلة، لا أن يبقى متمسكاً بقشورها الخارجية. أيام زمان، كان رعاة الأمر من ساسة ومسؤولين وكتاب وصحافيين يعتبرون الطائفية والمذهبية من الشتائم الكبرى التي لا يجب السكوت عنها، فإذا أردت أن تُحط من قدر شخص منهم ما عليك إلا أن تقول له: أنت طائفي مذهبي. عندها يلتقط قفاز التحدي ويبارزك بالجدل حيناً، وبإقامة دعاوى الذم والقدح في معظم الأحيان، ويدخلك السجن إذا استطاع إلى ذلك سبيلاً. بينما اليوم فإن الطائفية والمذهبية صارت الموسيقى المحببة إلى الآذان. لبنان أيام زمان الذي أتكلم عنه لا يرجع إلى القرون الوسطى، بل إلى القرن العشرين، وإذا أردنا التحديد إلى مرحلة ما بعد الاستقلال في الأربعينيات. في ذلك العصر الذهبي كان هناك طائفية لا طائفيون، ومذهبية لا مذهبيون يتعايشون ويعيشون معاً بأنغام سلسة منسجمة تفرح الروح ولا تؤذي الأذن. فما الذي حصل اليوم كي تنقلب الآية رأساً على عقب فيتحول هذا البلد الجميل الذي يحسدنا عليه القريب والبعيد والعدو قبل الصديق، من جنة تجري من تحتها الأنهار، إلى جهنم تهددنا نيرانها، صبحاً ومساءً، بأنها سوف تأكل الأخضر قبل اليابس؟ وما الذي حدث حتى أصبح أولياء الأمر، من حكام وساسة وأصحاب رأي يطربون عندما تصفهم بالطائفية وبالمذهبية وكأنك تضع على صدورهم نياشين العزّ والفخر والبطولة؟ هل كان لبنان هكذا منذ قيامه كدولة، وهو اليوم يظهر حقيقة بأبشع صورها؟ أم أن ما يحدث اليوم ليس أكثر من مرض حديث أصاب البشر والشجر والحجر، مثل مرض «انفلونزا الطيور» أو مرض «جنون البقر» حيث استطاع «الطب» الحديث محاصرته ومنع انتشاره باستخدام الامصال المستحدثة التي لم نسمع باسمها إلى الآن... وإذا لم نبدأ مرحلة العلاج اليوم قبل الغد فإن هذا المرض مع غيره من الأمراض سيقضي لا محالة على الجسم اللبناني ثم ينتقل إلى الجوار القريب والبعيد أيضاً؟! إن ما أصاب الجسم اللبناني هو «كوكتيل» من الجراثيم الاجتماعية المستوردة، ساعد على نموها وانتشارها رفاق لها من: نوع الأنانية، والجهل، وحب الكسب الحرام. وكلها تأتي من «فوق» لتصيب الذين هم «تحت» بعد أن فقدوا الجزء الأكبر من المناعة والأخلاقية. الأنانية، يجسدها حب الذات ومبدأ «أنا ومن بعدي الطوفان». و«الجهل»، يمثله «ما أصاب جاري لن يصل إليّ». أما حب الكسب، فحدث ولا حرج. إن جيوب «هؤلاء» المتخمة باتت وطنهم بمن فيه وما فيه، إنها الأب والأم والابن والعشيرة، وإذا كان من الصعب، بل من المستحيل أن تأخذ الوطن الحقيقي، بالأرض وما بُني عليها، إلى حيث الأمن والأمان في ساعة الخطر، فإنه من السهل جداً أن يضع «هؤلاء» وطنهم في دفتر شيكاتهم ويطيرون آمنين مطمئنين في أرجاء الدنيا الفسيحة وشعارهم يتناقض معنى ومضموناً مع قصيدة الصديق محمود درويش بحيث تصبح: وطني هو الحقيبة، وأنا جد مسافر. (القصيدة الأصل: وطني ليس حقيبة، وانا لست مسافر). * * * * * * * * انتهى «الردح»، والصدق أقول إنها أعطت مفعول حبة «الفاليوم» المهدئة للأعصاب، أما الآن تعالوا معاً مجدداً نحاول اكتشاف ومعرفة حقيقة ما حصل وما يمكن أن يحصل في «لبنان الأخضر». • الحقيقة الأساس هو أن لبنان، منذ حصوله على الاستقلال من فرنسا في العام 1943 إلى الآن، لم يمارس منفرداً حق اختيار رئيس للجمهورية. بل كان هناك ولايزال ناخبون يختارون للبنانيين رئيساً لهم. فرئيس ما بعد الاستقلال «بشاره الخوري» انتخبته بريطانيا بموافقة الولايات المتحدة نكاية بفرنسا الديغولية التي منحتها معاهدة «سايكس بيكو» حق الوصاية على لبنان وسورية بعد الحرب العالمية الأولى. • في بداية الخمسينيات حاولـت فرنســا أن تستـرد نصـف مـا «سلـب» منها، فسعت إلى أن تكون الناخب الثاني بعد بريطانيا في اختيار الرئيس اللبناني فقدمت مرشحاً وسطاً لم يكتب له النجاح «حميد فرنجيه». وفاز المرشح البريطاني الهوى «كميل شمعون». • فـي العــام 1958 تغيــرت المعطيـات إقليميـاً بظهــور «جمـال عبـد الناصر» على رأس دولة الوحدة المصرية – السورية. وحاول عبد الناصر أن يكون الناخب الأول لرئيس جمهورية لبنان، لكن الولايات المتحدة، بعد انقلاب عبد الكريم قاسم في العراق، دخلت حلبة الصراع اللبناني بقوة وكانت التسوية: أميركا ترشح وعبد الناصر يوافق. وجاء فؤاد شهاب. • تغيـرت الأحوال السياسيــة في المنطقــة، وانتــهى دور عبدالناصر كناخب ثان بزوال دولة الوحدة وحلت محله سورية الجارة والشقيقة. مرة ثانية أميركا رشحت وسورية وافقت وجاء «شارل حلو» كرئيس توافقي للناخبين الاثنين غير اللبنانيين. • في العــام 1970 اختلطــت اوراق الناخبين الاثنين وكادت أن تؤدي إلى تصادم لولا قبول سورية مرغمة باستمرار سياسة: أميركا تختار وسورية توافق. وكان عهد «سليمان فرنجية». • في العام 1976 تغيرت الأحوال رأساً على عقب بعد ظهور العنصر الفلسطيني المسلح، الخارج عن سيطرة دمشق وأميركا معاً. واتفق الاثنان على إبقاء معادلة «الستاتيكو» في اختيار الرئيس اللبناني. وكان «إلياس سركيس» رئيساً. • اشتدت الحرب الأهلية وبرز دور إسرائيل لتصبح في مرتبة الناخب الأول والوحيد. وانتخب «بشير الجميل» ممثلاً لهذه المرحلة القصيرة جداً استطاعت دمشق أن تعيد التوازن «بتغييب» الرئيس المنتخب قبل أن يستلم سلطاته الدستورية. وحل مكانه شقيقه الأكبر «أمين» بعد أن ساوم دمشق على عدم ممانعة ترشيحه. وقبلت دمشق العرض لأنه يمنحها فرصة استعادة مركز الناخب الثاني الذي فقدته بانتخاب بشير. • بعـد «أميـن» حصلـت الفوضى الدستوريـة استكمالاً للفوضى الأمنية وصار لبنان برأسين أحدهما «ميشال عون» انتهت بطرد عون بالقوة بعد «تغييب» الرئيس الجديد المنتخب «رينيه معوض» الذي لم تسعفه الظروف لإعادة التوازن إلى البلد الذي فقد كل التوازنات. هنـا وجدت دمشـق أن الفرصة أصبحت سانحة لتكون الناخب الأول والوحيد في انتخاب الرئيس اللبناني. وكانت النتيجة مجيء «إلياس الهراوي» إلى قصر بعبدا لمدة ست سنوات، مددت ثلاث سنوات أخرى. وأصرت دمشق على التمسك بمركز الناخب الأول والوحيد حيث وصل «العماد إميل لحود» إلى قصر بعبدا. ومازال هناك إلى حين كتابة هذه الأسطر. بعد هذه المراجعة التاريخية يمكن القول تأكيداً إن المعركة التي تدور رحاها في لبنان اليوم، والتي تستخدم فيها كل الأسلحة المذهبية والطائفية القذرة، هي عبارة عن محاولة العودة إلى معادلة انتخاب رئيس الجمهورية إلى ما كان عليه سابقاً مع تغيير طفيف. دمشق لم تعد متمسكة بوحدانية التصويت، بل قبلت بمشاركة واشنطن. لكنها ترفض أن تكون الشريك الموافق، وتصر على دور الناخب الأول. واشنطن من جهتها تسعى إلى إخراج سورية من المعادلة كلياً. وبين هذا وذاك يقف اللبنانيون كقطيع غنم، لا حول له ولا كلمة، يساق بخطى حثيثة إلى... المذبحة. حمى الله لبنان واللبنانيين والناس أجمعين. *كاتب لبناني
مقالات
لبنان لا ينتخب رئيسه!
14-08-2007