استراتيجية بديلة للنصر في الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي 5

نشر في 20-01-2008
آخر تحديث 20-01-2008 | 00:00
 د. محمد السيد سعيد

هناك ثلاثة تحركات مستقلة نسبياً تحقق النصر هي: تطويق إسرائيل بتدفقات ثقافية، ومنافستها في المجال التكنو-اقتصادي، والتركيز في المجال المؤسساتي تحديداً على إنتاج بنية حكومة من طراز جديد. المهم أن يكون هناك عمل تخطيطي كبير لدى السلطة الفلسطينية لنجاح هذه الاسترتيجية.

مضمون الاستراتيجية

جوهر الاستراتيجية البديلة التي أدعو إليها ثلاثة نطاقات كل منها يقوم على تحرك مستقل نسبياً ولكنها في المجموع تحقق هدف النصر:

التحرك الأول، يتم لتطويق إسرائيل بتدفقات ثقافية تتحدى عزلتها وأبنيتها الأيديولوجية العنفوية والمبنية على حتمية الصدام بين اليهودي والأغيار، وإحياء فلسطين ثقافياً عبر صيغة تنعش دورها التاريخي لمعظم فترات التاريخ خصوصاً في العهد اليوناني، ثم في العصر المسيحي-الإسلامي باعتبارها ثقافة التركيب بين المعرفي والإيماني، أو بين العلمي والتأويلي أو بين المادي والروحي وهي جوهر الاستراتيجية لأنها تنشئ فضاءً يمكن أن يجد فيه الجميع أنفسهم من دون أن يتنازلوا عن هوياتهم واجتهاداتهم الثقافية. كانت هذه هي العبقرية الثقافية الخاصة لفلسطين كجسر بين الثقافات، ويمكن أن يؤدي إحياؤها في نهاية المطاف إما إلى عزل الأيديولوجيا الصهيونية أو انكماشها مع الوقت.

التحرك الثاني، يتحدى أو ينافس إسرائيل في مجال تفوقها تحديداً وهو النطاق العلمي والتكنو-اقتصادي، وأدعو هنا السلطة الوطنية الفلسطينية إلى إطلاق تجربة اقتصادية وتكنولوجية قوية تتواصل وتترجم الصياغة الثقافية التي تشكل الإطار العام للاستراتيجية البديلة، كيف يؤثر هذا التحرك في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي؟ الإجابة واضحة، فهو أولا يفرض على إسرائيل احترام الشعب الفلسطيني والتعامل معه على قاعدة الندّية، وهو من ناحية ثانية يفتح مجالات كثيرة لتفوق الفلسطينيين، وهو أمر لا يمكن استبعاده بل حدث بالفعل في بعض المجالات ورغم قسوة ممارسات الاحتلال والقيود التي تسرف في فرضها على الفلسطينيين، والتقدم العلمي والتكنولوجي هو الطريقة الوحيدة لتجاوز هذه القيود والتغلب عليها بينما يمكن لإسرائيل دائما خنق الاقتصاد الفلسطيني إن اعتمد على الإنتاج الزراعي والصناعي التقليديين. وأخيراً فإن الاحتمالات الدفاعية والانعكاسات على موازين القوى لأي تقدم علمي في الأرض المحتلة هي أمور واضحة بذاتها ولا تحتاج إلى شروح مستفيضة.

أما التحرك الثالث، فهو في المجال المؤسساتي تحديداً مع التركيز بصورة خاصة على إنتاج بنية حكومة من طراز جديد... حكومة قادرة على إدارة التواصل والتنسيق بين فعاليات دولية وداخلية مدنية وسياسية مختلفة، ولا شك أن إدارة قطاع دفاعي قوي وإن كان بمنظور مختلف للدفاع، هو أحد مكونات أو ربما أهم تحديات هذا التحرك.

عوامل نجاح

هل يستطيع الفلسطينيون تطبيق استراتيجية كهذه؟ هل لهذه الاستراتيجية أي فرصة للنجاح أو حتى لبداية الانطلاق في الساحة الفلسطينية أو في المستوى العربي؟ هل تسمح إسرائيل بأي تحرك جاد على هذا الطريق؟

يشكو الفلسطينيون تقليدياً من القيود الكبيرة التي تفرضها إسرائيل على صلاحيات سلطتهم الوطنية وقدرتها على اتخاذ القرارات خصوصاً في المجال الاقتصادي. الفلسطينيون يقولون إن السلطة الوطنية مخنوقة ومقيدة بكل ظروف الاحتلال والمناخ الخانق الذي تضع فيه المؤسسات الفلسطينية، فهل يمكن الحديث عن هذه الاستراتيجية الطموحة في فلسطين وسط مناخ الاحتلال الخانق وما بعد الاحتلال من هيمنة متوقعة؟ وكيف يمكن أن نتخيل إمكان تطبيقها في فلسطين المحتلة والفقيرة بينما لم تحاول أو تنجح دول عربية كبيرة ومستقلة في مجرد تخيلها أو رسمها أو تنفيذها؟ وحتى لو أمكن تطبيق كل ذلك في الضفة والقطاع فما علاقة هذه الاستراتيجية بهزيمة الصهيونية وتفكيكها وإذابة المجتمع اليهودي في مجتمع عربي أوسع.

الإجابة عن كل هذه الأسئلة غير جاهزة، غير أني أجزم بأن امتلاك الرؤية وتكوين نخبة ولو صغيرة مصمّمة على وضعها موضع التطبيق قد يكفي لتدشين استراتيجية طموحة من هذا النوع. فالمعطيات الأساسية لتطبيق هذه الاستراتيجية أو بعضها على الأقل موجودة بالفعل.

وقد لا نستبق الإجابة عن عشرات من الأسئلة التطبيقية، غير أن هناك إجابات تقترح نفسها فيما لو تبنتها سلطة وطنية ذات رؤية ورغبة في الالتزام بها، وقد تكون الإجابة الأولى عن الإطلاق هي استعادة آلاف من العلماء ورجال الأعمال والخبراء الفلسطينيين من الشتات وتسليمهم جانباً كبيراً من مسؤوليات وصلاحيات التطبيق في الداخل الفلسطيني. كان ذلك هو أيضاً ما فعله الصهاينة في ما يسمى مجتمع «اليشوف»: بنوا جامعات ومراكز بحوث كبيرة ومؤسسات واقتصاد اشتمل على تجربة متنوعة وشاقة ومنظمة، وأعتقد أن قيام العلماء والخبراء ورجال الأعمال الفلسطينيين بهذا الواجب لن يكون أكثر يسراً فحسب، بل سيكون أكثر قدرة على إلهام الفلسطينيين والعرب وربما اليهود أيضا.

وأجزم بأن هذه الفئة من العلماء والخبراء ورجال الأعمال الفلسطينيين في الشتات هي أقوى ما يمتلكه الفلسطينيون على الإطلاق، فلديها الأسماء والمستوى العالمي ولديها التنوع في التجربة الثقافية والمهنية ولديها أيضا الرغبة والالتزام بالقضية الفلسطينية. والواقع أن السلطة الوطنية لن تنجح أبدا في إنجاز أي شيء طموح بما في ذلك هذه الاستراتيجية إن هي قصرت في الاعتماد على هذه الفئة الطليعية من الشعب الفلسطيني أو في دعوتها للمشاركة في تطبيق هذه الاستراتيجية أو تولي المسؤولية الأساسية عنها.

إجابة ثانية تتمثل في التنوع الديني والثقافي في فلسطين عموماً، ولا يمكن بالطبع مقارنة التقاليد الثقافية والدينية الراهنة بما توافر لفلسطين خلال حقب طويلة ومزدهرة من تاريخها الروماني والمسيحي والإسلامي، ولكن سيكون من الأسهل أن ندعو إلى إحياء هذه التقاليد فتتوافر الرؤية الواضحة ويمكن تعبئة الناس وشحنهم لبدء تطبيقها أو توفير مناخ يرعاها بدلاً من المناخ الحالي الذي يطمرها. يمكن للفلسطينيين بالذات بأكثر من غيرهم من الشعوب يمكن أن يفهموا ثراء وروعة التنوع.

إجابة ثالثة يمكن أن توفر أيضاً الرابطة العملية بين جميع عناصر ومعطيات الاستراتيجية التي نبحث عنها وهي الإسناد المالي والاقتصادي العربي والعالمي. المهم أن يذهب هذا الإسناد إلى أفضل منافذه وإلى القطاعات القادرة على إطلاق هذه الاستراتيجية والنهوض بالاقتصاد الفلسطيني عموماً.

وأخيراً فهناك التعاطف العالمي الراسخ والمتجذر في الثقافة الراديكالية والإنسانية في الغرب بالمعنى الواسع للكلمة وفي روسيا وبعض الدول الآسيوية. هذا التعاطف يمكن أن يترجم عبر رؤية جديدة إلى بناء مؤسساتي باق مع الزمن.

لنتصور الأمر على النحو التالي، أولى الخطوات في تطبيق هذه الاستراتيجية هي التخطيط لبناء جامعات كبيرة على مستوى عالمي. وبالطبع يجب أن نبدأ بالمجالات التي يتوافر فيها لفلسطين مزايا تنافسية كبيرة: الدراسات الدينية واللغوية والتاريخية. ولكن يجب من اليوم الأول أن تخطط عمليات البناء لمنظومة جامعية قوية بحيث تشمل الفروع والمجالات العلمية الحديثة، ويمكن أن تسهم في هذا المشروع الكبير الهيئات الإسلامية والمسيحية الشرقية والدولية، والدول العربية الداعمة خصوصاً في الخليج، والعناصر العلمية والثقافية المتعاطفة مع قضية الشعب الفلسطيني، ولكن قبل ذلك كله العلماء الفلسطينيون المغتربون.

وحول النواة التخطيطية لهذه السلسلة من الجامعات العالمية يجب على السلطة الوطنية الفلسطينية أن تقيم قاعدة تكنو-رأسمالية واقتصادية، ومن المجالات التي تقترح نفسها هنا الاستثمار بكثافة في بناء صناعة معلوماتية قوية لسببين: أن الخبرات الفلسطينية فيها هائلة، ثم أنها أرخص كثيراً مما يتوافر لإسرائيل التي تنافس بشدة في هذا المجال وتستطيع فلسطين أن تتغلب عليها على الأقل في بعض الأنشطة والفروع.

على السلطة الوطنية الفلسطينية أن تفكر أساسا في بناء اقتصاد حديث، ولكن بذل جهد كبير جدا في عمليات التدريب المهني بالارتباط مع رؤية للتقدم يشارك في وضعها الجميع، وعلى رأسهم رجال الأعمال الفلسطينيون سيكون له دور كبير في ضمان الدعم الشعبي للاستراتيجية المقترحة.

المهم أن يكون هناك عمل تخطيطي كبير سواء في ما يتعلق بتحويل فلسطين إلى أرض الأكاديميا الدولية والثقافة «الكوزموبوليتانية» الحقة أو لتمويل وضمان نجاح عملية كبيرة لتحديث الاقتصاد، ولا شك أن وجود أداة حكومية فعالة يمثل أحد أهم الشروط وأعقدها لنجاح هذه الاستراتيجية، والإجابة عن الأسئلة المعقدة المرتبطة بهذا الجانب من الصورة يمكن أن تتوافر فقط من خلال حوار طويل ومثابر.

* كاتب مصري

back to top