Ad

من المفترض أن يصوب المثقفون أهدافهم إلى أبعد مرمى يرونه، ويطالبون الحكام بأن يصلوا معهم إلى تلك النقطة، وإذا ما وصلت السلطة، بعد جهد وصراع، إليها، يكون المثقف قد رابط عند نقطة أبعد، ليطالب السلطة مجدداً بأن تتبعه، وهكذا، في رحلة لا تنتهي، بحثاً عن وضع أفضل للمجتمع.

«لا يمكن للسلطة السياسية أن تستولي على الأعمال الإبداعية، كما تستولي على المصانع، كذلك لا يمكن الاستيلاء على أشكال التعبير الأدبي، كما يتم الاستيلاء على الرخص والتصاريح». هكذا يقول الأديب الألماني الكبير برتولد بريخت، في إيحاء جلي إن الأدب يستمد سلطته من صعوبة السيطرة عليه.

فرغم القيود التي تفرضها بعض السلطات الحاكمة على حرية التعبير، فإن الأدب يمتلك، ربما أكثر من غيره، قدرة على تطويق هذه القيود، ومقاومتها، فهو يتصدى للإكراه، ويحطم كل سلطة، حين ينفتح على الخيال، من أجل توليد المتعة، وخلق الوعي. كما أن الأدب، في النهاية، هو نوع من الخطاب، الذي ينازل خطاب السلطة، في إطار المساحة التي تقاوم فيها سلطة المعرفة، بكل مقوماتها التي عرضها المفكر الفرنسي ميشيل فوكو، السلطة المادية التي تضغط في اتجاه إخضاع الإنسان لمنطقها ومصالحها.

كما يستقي الأدب سلطته، كذلك، من «سلطة المثقف»، التي رغم تشكيك بعضهم فيها، بحديثهم عن «موت المثقف»، أو تدجين السلطة له، فإنه لا يمكن إغفالها تماماً، مع توقع انبعاثها في أي لحظة تاريخية، ومع الإيمان بأن النهضة الثقافية تسبق أي نهضة اقتصادية واجتماعية. والأديب، في النهاية، هو مثقف، له موقف من السلطة، ويحاول أن يمارس دوره في المجتمع، الذي يعيش فيه. وهو بقدر ما يكون جاداً في ممارسة هذا الدور، وبقدر ما ينحاز للقيم النبيلة، وينشد الوضع الأفضل لمجتمعه، يصنع سلطته الخاصة.

وسلطة المثقف هي من نوع آخر، بمعنى أنها ليست سلطة مادية، بل رمزية، أي سلطة الكلام والكتابة، لكنها في النهاية سلطة تُمارس على النفوس والعقول، بواسطة المنتج الرمزي، المتمثل في الأفكار والمعارف أو في العقائد والطقوس. وهذه السلطة تؤدي هذا الدور منذ زمن العراف، حتى وقت المثقف الحديث، مروراً بالكهنة والقساوسة والفقهاء. وحين يعي المثقف حقيقة دوره الاجتماعي، ويحرص على تأديته بأكمل وجه، فإن اصطدامه بالسلطة يصبح وارداً إلى حد كبير. ويكون هذا الصدام بحجم الهوة التي تفصل بين الحلم الذي يراود المثقف والواقع الذي تعيشه السلطة السياسية بالفعل. فمن المفترض أن يصوب المثقفون أهدافهم إلى أبعد مرمى يرونه، ويطالبون الحكام بأن يصلوا معهم إلى تلك النقطة، وإذا ما وصلت السلطة، بعد جهد وصراع، إليها، يكون المثقف قد رابط عند نقطة أبعد، ليطالب السلطة مجدداً بأن تتبعه، وهكذا، في رحلة لا تنتهي، بحثاً عن وضع أفضل للمجتمع.

لكن بقدر ما يستمد الأدب جزءاً من سلطته من السلطة الاجتماعية للمثقف، فإن الأخير، وفي المقابل، يساهم أحيانا في الحد، ليس من سلطة الأدب، فحسب، بل من سلطة المعرفة ذاتها، وذلك حين يتمكن السياسي من تدجين الأديب، واجداً ما يسمي بأدب السلطة، فالسياسي مهتم أساساً بالأدب المؤسسي، أو الرسمي، الذي يكرس ما هو قائم، وهو أدب المديح، كما يسمى في تاريخ الأدب العربي؛ ليتحول الأديب إلى بوق إعلامي، ويفقد أي هامش من الحرية، مهما كان ضيقاً.

وهذا ما يمارسه الأديب المنصاع والانتهازي، والحالم بالسلطة، والسياسي الذي دخل مجال الأدب عنوة، ليوظفه في خدمة أغراضه السياسية. ولا يقتصر هذا الأمر على سياسيي الأنظمة المحافظة، بل يمتد إلى نمط الحكم الثوري، الذي يرى في الأدب قوة من ضمن القوى الأخرى، التي يجب أن توضع في خدمته، ألا وهي، قوة التحريض والترويض، قوة الإعلام التي تحرك الرأي العام وتوجهه، فالخطابة هي الجنس الأدبي الأقرب إلى ذوق الثوار، حيث انها ذات تأثير مباشر في الجماهير. والخطابة، في طريقتها ومضمونها، ما هي إلا لغة أدبية، ذات طبيعة شعرية، من حيث اعتمادها على الاستعارة والكناية.

في كل الأحوال يتيح الأدب، بوصفه شكلاً للإنتاج الثقافي، أكثر من غيره للكتاب أن ينتقدوا الأوضاع القائمة من دون أن يتركوا وراءهم دليلاً ملموساً، يعرضهم للمساءلة، أمام القوانين الكثيرة التي تسنها السلطة لحماية نفسها، وتكريس وجودها، والدفاع عن مصالحها المادية. ولذا سيظل أداة مهمة في يد المثقفين في مواجهة السلطة في كل زمان ومكان.

ولا يقتصر الأمر على أدب النخبة فقط، من شعر وقصة ومسرح، بل يتجلى بشكل أوضح في الأدب الشعبي. فالمواويل والأمثال والسير والأغاني التي تجود بها القريحة الشعبية، تمثل منفذاً للبسطاء ينتقدون منه الأوضاع الاجتماعية، التي لا تروق لهم، ويسخرون من السلطة، التي لا تعدل بينهم، ويحلمون بحياة أفضل من تلك التي يعيشونها.

* كاتب وباحث مصري