تعيش الحكومة منذ الإعلان عن زيادة الرواتب حالة من التردد والعشوائية وإطلاق بالونات الاختبار عبر الصحافة لمعرفة أي مبلغ يمكن أن يرضي الناس بعدما أصبحت «كبالع الموس» في كيفية إيجاد «تخريجة» مناسبة لمأزقها، وأكاد أجزم بأنه حتى هذه اللحظة لم تقرر الحكومة حتى مبدأ الزيادة ناهيك عن مقدارها ومعاييرها ومستحقاتها ومدى تطبيقها على المتقاعدين وأصحاب الكوادر والعاملين في القطاع الخاص.أكدت قضية زيادة الرواتب مدى افتقار الحكومة إلى الكثير من الرؤى والاستراتيجيات المحورية التي يعول عليها في رسم ملامح مستقبل البلاد، وخصوصاً في ظل التوجيهات السامية لصاحب السمو بتحويل الكويت إلى مركز مالي وتجاري إقليمي وتبني هذا الشعار كأولوية قصوى في برنامج عمل الحكومة.
فقد شابت خطوات الحكومة في التعاطي مع الملف الاقتصادي إجمالاً تناقضات عجيبة تبعث على القلق من إمكان ترجمة هذا الطموح الخطير على أرض الواقع، فمن جهة اختارت السلطة التنفيذية خيار المواجهة مع مجلس الأمة لإقرار جملة من التشريعات التي من شأنها تحريك مياه الاقتصاد الراكدة وفتح أبواب التعامل مع العالم الخارجي حتى وصل بها الحال إلى ترويج التهديدات بحل المجلس إذا لم تقر قوانين مثل أملاك الدولة وخصخصة «الكويتية» وتخفيض الضريبة على الاستثمار الأجنبي.
وفي المقابل وبالحماسة نفسها وبنبرة التحدي وقفت الحكومة بقوة ضد مبدأ زيادة الرواتب التي بادر المجلس بتبنيها وبقيمة 50 ديناراً، إذ اعتبرها وزير المالية في ذلك الوقت «بعزقة» مرفوضة تبعاً لتوصيات البنك الدولي، ولكن وفي غضون شهرين فقط تراجعت الحكومة عن موقفها زعماً أن توصيات البنك الدولي غير ملزمة وتعهدت باعتماد زيادة «مجزية» قبل نهاية شهر فبراير الجاري!
ومنذ ذلك الإعلان تعيش الحكومة حالة من التردد والعشوائية وإطلاق بالونات الاختبار عبر الصحافة لمعرفة أي مبلغ يمكن أن يرضي الناس بعدما أصبحت «كبالع الموس» في كيفية إيجاد «تخريجة» مناسبة لمأزقها، وأكاد أجزم بأنه حتى هذه اللحظة لم تقرر الحكومة حتى مبدأ الزيادة ناهيك عن مقدارها ومعاييرها ومستحقاتها ومدى تطبيقها على المتقاعدين وأصحاب الكوادر والعاملين في القطاع الخاص، ووفق هذا المنوال وكما حصل في مرات سابقة فمن المؤكد أن تنتظر الحكومة ساعة الصفر وترجح مبلغاً معيناً بعد «مكاسر» مع مجلس الخدمة المدنية، وكل ذلك على حساب اللعب بعواطف وأعصاب الناس فيما تصاعدت الأسعار بشكل جنوني قبل الإعلان عن زيادة الرواتب!!
فقد كانت الرؤية الحكومة على مدى السنتين الماضيتين هي الوحيدة المغيبة في الدولة والتي تجاهلت التعامل مع تشخيص ومتابعة وعلاج معدلات التضخم العالمي والمحلي وارتفاع الأسعار وضغوط القروض، بل ظلت تكابر على عدم وجود أية مشكلة أساساً إلى أن جاءت المبادرة الأميرية لتلزمها بإقرار زيادة الرواتب حتى وجدت نفسها مجبرة على أن تؤدي الفرض المنزلي Home Work خلال أسبوعين بعدما تكاسلت عن القيام به منذ سنتين.
إن تجربة زيادة الرواتب وقبلها تجربة معالجة أزمة القروض الاستهلاكية والمقسطة والتجارب الاقتصادية القادمة مثل ارتفاع الأسعار وغيرها التي تعتبر مجرد انعكاسات لبرامج ونظريات اقتصادية معقدة ومتشابكة ومرتبطة باقتصادات عالمية تضع الحكومة ورؤيتها الاقتصادية على محك حقيقي ولكن بمؤشرات أداء متردد ونابع من ردود أفعال.
فإعادة هيكلة المالية العامة للدولة وإعداد خطة تنموية بعيدة المدى وتطبيق حزمة ضوابط وتوصيات البنك الدولي الأخرى من قبيل فرض ضريبة الدخل وترشيد الاستهلاك والخصخصة كلها ملفات تتطلب قرارات صعبة ومدروسة بعناية ونخشى أن تواجهها الحكومة كما تواجه الآن ارتفاع أسعار «النخي والباجلا».