كان طبق الدجاج بالجبن آنذاك يتصدّر المائدة وثلاجة Free-O-Frost تحلّ مشاكل النساء كافة وكان هيو رودهام يستيقظ كلّ صباح في منزل أحلامه المحصّن بجدران سميكة والكائن في ضواحي مدينة بارك ريدج مردداً أغاني ميتش ميلر بصوت مرتفع ثم يجلس في تمام السادسة مساءً إلى مائدة العشاء متحدثاً بإسهاب عن اكتفاء الأميركيّ بذاته.في هذه اللحظة بالذات يحتدم النقاش فتقاطع زوجته دوروتي رودهام قائلة: «قد يتعرض الناس أحياناً لأمورٍ لا سيطرة لهم عليها»، وتشارك ابنتهما هيلاري في الحديث مؤيدة أمها تارة وأباها طوراً حتى يحسم أبوها النقاش بكلمة فصل كانت آنذاك حكراً على الآباء والرؤساء.لم يكن للنقاش الدائر حول مائدة العشاء نهاية بالنسبة إلى هيلاري كلينتون التي أكدت في مقابلة أجرتها مع إحدى وسائل الاعلام منذ فترة أنّ والدها هيو قولب بطابعه المحافظ شخصيتها «لدرجة أن النقاش أضحى جزءاً لا يتجزأ من التوازن في حياتها: «كنت أقدّر هذه النقاشات مع النزعة الفردية التي تميّزها ولكنها لم تساعدني على فهم العالم كما كنت أتمنى أن أراه». تحليل ذاتي لا يشفي غليل النقاد طبعاً أولئك الذين يأخذون عليها تقلّباتها السياسية ووجهات نظرها المعلّبة والمفتقرة إلى الثبات. ولكن ثمة هيلاري أخرى وراء هذا القناع من الانطباعات التي يراها الناس عبره. تلك التي ترعرعت في بارك ريدج في ضواحي شيكاغو الخالية من أبناء العرق الأسود والناطقين بالاسبانية والمطلّقين والديمقراطيين.
عائلة وتلفزيون
اشترى هيو رودهام منزله العائلي عام 1950، وقد دفع ثمنه 35 ألف دولارعدّاً ونقداً من الأرباح التي جناها في تجارة الألبسة الجاهزة وكان يعمل 14 ساعة في اليوم ويقود سيارة كاديلاك سدّد ثمنها نقداً أيضاً. لم يكن هيو يؤمن بالدَين والحكومة الراعية والضريبة على الأرباح الرأسمالية، والمساعدات الحكومية إلا تلك المخصصة للطرقات والمدارس.»كان والدي انساناً محافظاً تقليدياً يؤمن بالعمل الدؤوب وبضرورة أن يبذل كلّ امرئ جهداً ويتقاسم الناس المسؤوليات» تعلّق كلينتون.
اشترت عائلة رودهام أول تلفاز لها عام 1951، وعلى امتداد عقدٍ انسابت «الحياة الأميركية» من شاشته فأطل دوايت ايزنهاور محذراً من الخطر السوفياتي و«لغة الصراع النووي الجديد»، وانطلقت على شاشته أيضاً المركبة الفضائية سبوتنيك، ووجّه ايزنهاور عبره نداء إلى الأولاد الأميركيين طالباً منهم التركيز على المواد العلمية في تحصيلهم الدراسي.
ما عدا التلفزيون، لم يعمر منزل رودهام بمشاهد الترف. فشبح «الفقر المدقع» كان يطارد هيو باستمرار، هو المنحدر من عائلة من العمال. لم ينكر هيو يوماً انتماءه إلى الطبقة الكادحة وميله إلى عدم التبذير إذ كان يطفئ جهاز التدفئة ليلاً ويرفض شراء أي غرض ببطاقة الائتمان سائلاً هيلاري وشقيقيها الصغيرين هيو الأصغر وتوني بنبرة احتجاجية: «أتريدون أن ينتهي بنا الأمر في منازل مخصصة للفقراء؟». وكان حين كانت هيلاري تطالبه بمصروف للجيب ينهرها قائلاً: «ألست أؤمّن لك لقمة العيش؟».
وحين كانت دوروثي تحث أولادها على أن ينهلوا العلم في سبيل العلم كان يقاطعها مصحّحاً: «العلم في سبيل كسب الأرباح». وليثبت لأولاده أنّ ما يعيشونه هو الترف بعينه كان لا يتوانى دورياً عن اصطحابهم بسيارته إلى حيّ الفقراء حيث يشاهدون بأم العين أحوال المتشرّدين وهو مصير يكتب على «أولئك المفتقرين إلى الانضباط والاندفاع بما يضمن لهم كرامة العيش».
تعترف كلينتون بأنّ والدها كان كتلة من الأفكار المسبقة إذ غالباً ما كان يحذّرها قائلاً: «إن واجهتِ المشاكل في المدرسة تلقَيْن المصير نفسه في المنزل!»
وكان يردّد على مسامعها بنبرةٍ حاسمة: «الحظّ يحالفك فلا تدعي الفرصة تفوتك!». ولا يعني ذلك طبعاً أنّ أباها لم يكن يعرف الرقة إذ كان من حين الى آخر يعاملها بلطف مبتسماً ولكنه لم يكن يجيد التعبيرعن حبّه هذا وكان يحبّ استفزازها حين كانت تعود إلى المنزل بعلاماتٍ متفوّقة فيقول لها: «لا شك في أنّ الدروس في المدرسة التي تقصدينها في غاية السهولة!».
وكان يملك طريقة أخرى للتعبير عن حبّه لها كأن يرفض الوقوف في وجه طموحها أو إرغامها على الاكتفاء بدور المرأة التقليدي. ففي العاشرة من عمرها كانت لعبة البايسبول تستهويها أسوةً بالصبيان الذين كانت تنضم اليهم لممارستها: «كنت الفتاة الوحيدة في الفريق فعلّمتني التجربة التحلّي بروحٍ رياضية وتقبل الربح والخسارة على حد سواء وعدم اتخاذ الخسارة كإهانة شخصية» تقول كلينتون.
رياضة وسياسة
علّم هيو ابنته استخدام المسدس، ولكن «المجادلة السياسية» كانت من دون شك أبرز رياضة تمارسها إذ كان الجدل يحتدم دوماً حول مائدة الطعام فتكفهر الوجوه لآراء هيو حول الشيوعيين ولصوص السياسة. وسرعان ما بدأت النقاشات تستهوي بيل كلينتون نفسه الذي صرّح لإحدى المجلات أنّ آل رودهام «كانوا يعشقون الجدال فيحاول كل منهم إعادة تدوين التاريخ على طريقته».
وكانت لوالدة هيلاري، دوروثي، أفكارها الخاصة ولكنها كانت تجد صعوبة في إيصال رأيها لأنّ صوت زوجها الواثق كان يطغى على صوتها. ولم تكن طفولة دوروتي سهلة، فقد تخلى عنها والداها نوعاً ما، واضطرت إلى العمل كحاضنة أطفال وأمينة سر وهي في الرابعة عشرة من عمرها. وكانت دوروثي تؤدي دور مدبرة المنزل المطواعة على أكمل وجه، في سبيل الحفاظ على الاستقرار العائلي، ولكنها كانت من دون شك من المثقفين الذين يلتهمون الكتب التهاماً، وكان أثرها على ابنتها لناحية حب القراءة واضحاً.
كانت هيلاري تلميذة مجتهدة. واعتادت معلّمتها اليزابيت كينغ توجيه سؤال إلى التلامذة فيعمّ السكوت في أرجاء الصف وتنتظر المعلمة طويلاً، ثم تقول لهيلاري: «لم لا تعطين إياهم الجواب يا هيلاري؟».
لم تعرف هيلاري يوماً مشاكل في المدرسة بل بالعكس كان اسمها يرد في كلّ لجنة تعنى بشؤون التلامذة. وحين بلغت الصف التاسع كانت مولعةً بأستاذ تاريخ مناهض للشيوعية يدعى بول كارلسون، قدّم لها نسخةً من كتاب باري غولدواتر بعنوان «ضمير رجل محافظ» فالتهمته وكتبت بحثاً من 75 صفحة عنه.
البحث عن الذات
وبقي كارلسون مرشد هيلاري الخاص من دون أي منازع إلى أن ظهر دون جونز في سيارته الحمراء المكشوفة من طراز «شيفي امبالا» عام 1961 قالباً أفكارها رأساً على عقب. نظم جونز حوارات مع أولاد شيكاغو الأقل حظوة فبدا تأثيره واضحاً على هيلاري التي تطوعت للاعتناء بأولاد العمال المهاجرين خلال موسم الحصاد.
ولا عجب في أنّ تصرّف جونز أثار حفيظة كارلسون خصوصاً أنّ جونز كان يحاول التأثير بفكره الليبرالي على طفلته المعجزة وكان كارلسون يرى في جونز انساناً عقائدياً منحطاً. وقدّم جونز استقالته بعد فترة بعد أن فوجئ وهو يوزّع مناشير مناوئة للشيوعية في الكنيسة.
لم تقطع هيلاري صلتها بجونز فظلت تبعث له الرسائل. ثم فجعت باغتيال كينغ عام 1968 فانفجرت بكاءً رامية كتبها عرض الحائط ولكنها سرعان ما استعادت رباطة جأشها.
بعد مشاركتها في بعض المؤتمرات السياسية في صيف 1968 أيقنت أنه عليها ولوج عالم السياسة لأنّ ذلك هو المدخل الرئيس للسلطة. كانت تؤمن حقاً بقدرتها على بلوغ السلطة مع أن مثل هذه الأفكار كانت مستبعدة لدى القسم الأكبر من الناس.
اختبار آيوا وحلم الرئاسةآيوا التي أطلقت فيها هيلاري كلينتون في بداية الشهر الحالي حملتها الانتخابية عجت باليافطات والشعارات الانتخابية. وتحدثت هيلاري في قاعاتها المحلية عن ماضيها الغرب أوسطي أمام جمهور من الكادحين الجالسين على كراسٍ حديدية فردّدت كلاماً كانت تسمعه حول مائدة العشاء حول «التجديد الأميركي» و«وظائف ذات دخل مرتفع». كما ردّدت كلام والدتها حول أولئك الذين تبوء جهودهم بالفشل لسببٍ أو لآخر فقالت: «إنهم يبذلون قصارى جهدهم ويقومون بما في وسعهم ولكن الحياة غير منصفة أحياناً».
توفي هيو رودهام بسكتة دماغية عام 1993 أثناء العام الأول لكلينتون في البيت الأبيض، وكانت العلاقة بين الوالد وابنته على خير ما يرام حتى هذا التاريخ مع أنّ هيلاري تصرّفت عكس رغبته فلم تكتف باعتناق الديمقراطية بل تزوّجت ديمقراطياً كذلك. في يوم زفاف ابنته عام 1975 إذ حان وقت تسليمها إلى العريس كان هيو يتصرّف كمن يُقدم على أمر على مضض. وحين سأل الكاهن: «من سيسلّم هذه الفتاة الى زوجها؟» توجّهت الأنظار إلى هيو الذي لم يحرّك ساكناً وقد أحكم قبضته على ابنته فنهره الكاهن قائلاً: «يمكنك أن ترجع إلى الوراء الآن يا سيد رودهام».
انتقل آل رودهام الى ليتل روك ليكونوا إلى جانب ابنتهم العروس حتى إنّ هيو ساهم في حملة صهره الانتخابية. وفي حفلة أقيمت على شرف انتخاب وليام جفرسون كلينتون رئيساً كان هيو واقفاً وحده في زاويةٍ حين تقدّم منه أحد أصدقائه القدامى ليهنئه فردّ مبتسماً: «إن ابنتي فتاة مميزة حقاً».
أبّن الرئيس كلينتون حماه بنفسه أثناء مراسم الدفن التي أقيمت له في ليتل روك قبل ان يوارى الثرى في مدافن العائلة فوصفه كرجلٍ «شديد الاهتمام بأولاده» مضى قائلاً: «أثناء حملتي الانتخابية عام 1974 دخلت إحدى الدوائر وكانت تعج بالجمهوريين الآتين من الغرب الأوسط وما إن بلغت المكان حتى شاهدت حماي المستقبلي في سيارة كاديلاك تحمل لوحة تسجيلها اسم ايلينوي وكان يخفي عن الآخرين علاقتي بابنته فتوجه إلى الحاضرين قائلاً: «أعلم أنكم من الجمهوريين وأنا أيضاً. الديمقراطيون مثل الشيوعيين إنما لا بأس بهذا الشاب».
تقف هيلاري اليوم مرشحةً للرئاسة. ما كان هيو رودهام المحافظ ليقول حول خوض امراة من الحزب الديمقراطي المعركة الرئاسية؟ تصمت هيلاري هنيهةً ثم تقول وقد افترّ ثغرها عن ابتسامة: «ما كان ليشعر بانزعاج إن أقدمت ابنته على أمرٍ!»