موبقة (ابن فليح)!!
في أوائل السبعينيات الميلادية من القرن الماضي، كنت قد تزوجت لتوّي من السيدة أم سامي، وأقمت لها (عشّة) من الخشب بين جماعتي في منطقة الشدادية، التي كانت تزخر بالعشيش، وكان عليّ لكي أكون متميزاً بينهم، أن (تجرأت) وأقدمت على ارتكاب (موبقة كبرى) في نظر القبيلة، حينما اشتريت تلفزيوناً صغيراً يعمل على البطارية العادية، وبالطبع هاجت وماجت القبيلة لهذا (العار الكبير) الذي جلبه عليها أحد أبنائها (العاقلين)، إذ كيف (يسمح له دمه) أن يُدخل (الفصاخة) والعري ودمار الأخلاق إلى بيته؛ لأنهم يفهمون آنذاك أن التلفزيون هو بمنزلة (كباريه) لا أكثر!! وعلى الرغم من أنني أفهمت رجال القبيلة، أن هذا الجهاز الخرافي (التلفزيون) فيه فائدة للناس، لأنه ينقل القرآن الكريم وفيه شيوخ يتحدثون أفضل مما يتحدث شيخ مسجد العشيش، وأنه يطلع فيه أمير البلاد و«يسولف» للمواطنين وفيه (تشوفون) الملوك والرؤساء، وفيه أخبار المطر والحيا من خلال النشرة الجوية، لكنهم بالطبع لم يستمعوا إليّ، فذهب وفد منهم إلى عمي (لعبان بن باطح)، وكان رجلاً صلباً وحاداً ومهيب الشخصية؛ إذ كان في الماضي بطلاً من أبطال القبيلة أيام «الحنشلات» والنهب والسلب من الأعداء، بل كان (حنشولياً) بائعاً وله مغامرات مذهلة يرويها رجال القبيلة عنه فقالوا له: (يا ابن باطح) قل (لابن أخيك)، أو (بناخيك) لا فرق أن (يُقلّع) هذا الجهاز اللعين لكي (لا يُخرّب) أخلاق القبيلة، ويشجّع الضعفاء على اقتناء جهاز مثله، فينشر (الخنا) و(العلوم الردية) بين أفراد قبيلتنا المشهورة بالعفة والشيم والطهارة، وبالطبع هبّ عمي وجاء لينقذ القبيلة من العار (التلفزيون!!) فجاءني مهدداً متوعداً مزبداً مرعداً، وهددني إن لم أقتلع هذا الوباء، فإنه سيعلن براءته مني بل براءة القبيلة كلها من ابنها العاق، الذي ألحق بها العار لمجرد أنه اقتنى تلفزيوناً (!!). فقلت له يا عماه أعرف أنك تملك (راديو) منذ سنين وأن هذا الراديو (يجيب) لك (الأخبار)، والشيخ عبد الباسط عبد الصمد وركن البادية في الكويت والسعودية، ويجلب لك (علوم) المطر وأخبار الملوك والأمراء، وتسمع فيه أغاني سميرة توفيق، لذلك ثق أن هذا الجهاز - أي التلفزيون - هو مجرد راديو (مرئي)، أي تشوف فيه اللي تسمعه بالراديو لا أكثر، وأنه مفيد وينقل الأذان للمسلمين وفيه نفع كبير، وأقسم لك يا عمي أنني لو لم أجد فيه فائدة للناس لما اشتريته، ولما وضعته في بيتي، هنا صمت عمي وقال لي يا ولدي أعرف (أن عقلك يزن بلد)، وأعرف أنك (فهيم رجال) وتعرف كل (سوالف الغانمين)، وما عليك (منقود)، لكنهم يقولون كذلك وأنا لا أرضى هذا (الهرج) عنك، قلت له: يا عمي أمهلني وقتاً لكي أرجعه، لقد كلفني ما يعادل (راتبين)، ولن يقبل البائع استرجاعه، لكنني سأبحث عمن يشتريه مني. حينها نفض عمي عباءته الوبرية ومضى غير مرتاح البال. لكنني فكرت طويلاً كما يفعل المصلحون في المجتمعات المتخلفة، واهتديت إلى حل ناجع، إذ تذكرت أن التلفزيون يبث يوم الجمعة بعد صلاة العشاء مسلسلاً بدوياً اسمه (وضحاء وابن عجلان)، من بطولة عبد الحميد مجدوب وسميرة توفيق (مطربة البادية)، وقلت في ذاتي: سأدعو القبيلة إلى وليمة مساء يوم الجمعة وسأضع التلفزيون فوق صندوق دلال القهوة، وأغطيه بقطعة قماش، حتى إذا ما حان وقت بث (مسلسل سميرة) سأرفع قطعة القماش فوراً، وبطريقة مفاجئة سأشغل التلفزيون على المسلسل مباشرة وليحدث ما يحدث!! في صباح يوم الجمعة، توجهت إلى ديوانية عمي التي يحتشد فيها رجال القبيلة لتناول القهوة قبل الصلاة، وبعد أن ألقيت عليهم السلام، قلت لهم: اسمعوا (يا ربع) أعرف أنكم (زعلانين) مني، لكن من أجل (شواربكم) سأقلّع التلفزيون، وأدقّ القهوة وأدعوكم اليوم إلى تناول العشاء، وسأعود (خوش ولد) كما هي (هقوتكم) بي، فقالوا جميعاً وبصوت واحد: كفو كفو من (أهلها وتفعلها).
توابل - ثقافات
السيرة الذاتية لطائر الصحراء - 16
06-02-2008