كانت الأمنيات كبيرة في أن يتطور التلفزيون في بلادنا ليصبح جزءاً من سلطة رابعة فعالة، تنهض بأدوار وتؤدي وظائف يحتاجها المجتمع، خصوصاً في ما يتعلق بالجوانب الرقابية، وبلورة مواقف الفئات الأضعف في زمن لا يحفل سوى بالأقوياء، إلى جانب وظائف تقليدية أخرى مثل الترفيه والإخبار والتعليم والتثقيف والخدمات.

Ad

ولم يخطر ببال أكثرنا تفاؤلاً أن هذه السلطة المرجوة ربما تتضخم وتتعملق لتفتئت على غيرها من السلطات؛ وهو ما يبدو في طريقه إلى الحصول فعلاً، لولا الطبيعة الخشنة لبعض هذه السلطات في مجتمعنا، وليس لمستوى الرشد الذي يجب أن تتحلى به كما هو مفترض.

وكما أُجريت الدراسات، وأُقيمت الندوات، ونُفذت استطلاعات الرأي، وعملت مؤسسات الدقة العامة والنقابات المهنية وفعاليات المجتمع المدني والأجهزة الحكومية على تقصي مشكلات الأداء التلفزيوني، في محاولة للضبط أو التقويم أو السيطرة والتحكم أو حتى حرف الاتجاهات، فقد نشطت فعاليات مشابهة لفعل العكس... تمجيداً للتلفزيون ورفعة لشأنه وتغنياً بفتوحاته وإنجازاته وحماية لقدر الحرية التي يتمتع بها، في منطقة عرفت الانغلاق طويلاً والانسحاق أمام السلطة... أي سلطة.

لكن هذا الكيان الذي يدخل بيت كل منا وعقله من دون استئذان بدا عملاقاً أكثر من إمكانات السيطرة، وظالماً أكثر من احتياجنا إليه وتعلقنا به، وانتقائياً أكثر من رغبتنا في العدالة... لقد بدا تسلطياً أكثر من تلك السلطات التي صلبناه والتففنا حوله ليحمينا من جورها وتفلتها.

وها هو اليوم يتحول من خلال عوامل قوته نفسها إلى عامل ضعف مجتمعي خطير؛ إذ تتخطى رغباته الأهداف المشروعة في أن يستوي مؤسسة للتلفزة إلى أن يتلفز المؤسسات الأخرى في المجتمع، وهي مؤسسات أنفقنا عقوداً في بنائها، وعلى رغم ما تنطوي عليه من ضعف وخوار وشخصنة وانحراف في الأداء، فإنها تبقى الضمانة الأخيرة للاستقرار والأمن، والطريق الوحيد للتقدم، والشرط الأساس للاستمرار والبقاء.

فمن مؤسسة للتلفزيون تؤدي دوراً في المجتمع، تخطئ وتصيب، وتعرف حدوداً مرسومة بدقة للوظيفة والممارسة، إلى تلفزة للمؤسسة؛ إذ نتخلى عن كيانات قائمة فعلاً، صُممت بالضرورة لتؤدي أدواراً محسوبة في غاية الأهمية، ونستبدل التلفزيون بها. نفرح بإنجاز سريع يحققه فرد واحد، وصل بشكل موضوعي أو بالواسطة أو بالمصادفة إلى مؤسسة التلفزة، وننسى أن آلافاً، وربما ملايين، مثله أو أحق منه، فقدوا الطريق إلى المؤسسة الحقيقية، ومعها ثقتهم فيها، وظلوا ينتظرون الوصول إلى التلفزة... بعدما تتلفزت المؤسسة.

الإفتاء... إحدى ركائز المؤسسة الدينية المهمة، بات جزءاً من مؤسسة التلفزة، ومعه وظائف الوعظ والتفسير والتوجيه والتعليم الديني. أصبح الراغبون في الحصول على فتاوى، أو تعلم أحكام الدين، أو الحصول على التفسيرات أو البركة يعرفون طريقهم تماماً... التلفزيون، بينما تقف وظيفة الإفتاء الحقيقية حائرة؛ إما الاندثار والذبول التامين، أو الالتحاق بالتلفزة.

مؤسسة الضمان الاجتماعي بأشكالها المختلفة؛ تلك المؤسسة التي تعد بين الأخطر والأهم في مجتمعات مازالت تراوح حول خطوط الفقر، ويتفتّت تماسكها الاجتماعي وتتشظّى قدراتها الشعبية تحت وطأة التوزيع الجائر للموارد والثروات، تلك المؤسسة تكاد تغلق أبوابها تماماً وتصبح متلفزة، فتتحول إلى جزء من مؤسسة التلفزيون، بحيث لا تجد طريقك إليها إلا من خلاله، ولا تحل مشكلتك إلا إذا وصلت إليه.

وعلى الطريق نفسه تخطو المؤسسة السياسية؛ فالأحزاب والمنتديات السياسية والجمعيات والقوى ذات التنظيم الجيد أو الضعيف، وحتى الحكومة؛ الجميع يتتلفز؛ وبدلاً من أن يستخدم التلفزيون أداة لتحقيق أهدافه، وتأدية أدواره، وتوصيل رسائله، ينطوي بالكامل تحته أو فيه، ويصبح جزءاً منه؛ إذ التلفزة غاية وليست وسيلة، ففيها وبها أنت موجود يعرفك الناس وتؤدي دوراً، ومن دونها لا يراك أحد أو يسمع بك، لست ميتاً حتى، أنت غير موجود في الأساس!

اليوم ننتظر لمؤسسة التعليم أيضاً المصير نفسه، فإذا صارت الأمور على استقاماتها؛ يتتلفز التعليم، وتغلق المدارس والجامعات؛ وبما أن الثقافة قد سبقته، فقد أغنتنا التلفزة عن المؤسستين وأعبائهما الجسام.

وبانضواء الجميع تحت اللواء نفسه؛ تصبح التلفزة مؤسسة للسياسة والتعليم والثقافة والمجتمع المدني والضمان الاجتماعي وربما الصحة، وإضافة إلى أدوارها الاجتماعية الأخرى، لا يبقى لنا غير القليل من المؤسسات التي لم تصبح متلفزة، والتي تستطيع أن تؤدي دورها بمعزل عن هيمنة التلفزيون واحتوائه.

وإذا لم ننتبه جميعاً إلى أن للتلفزيون كمؤسسة أدواراً غاية في الأهمية يجب أن نعيها ونحترمها ونحافظ على سلامة أدائها، وأن تلك الأدوار لا تتضمن تفتيت المؤسسات الأخرى في المجتمع وتأدية أدوارها وسلبها فاعليتها ووظيفتها، وربما وجودها نفسه، فلن نجد سوى علاج بالوصفات على الهواء، وصدقات من محسنين عابرين، وبرامج تعليمية تلفزيونية، واستعراضات بهلوانية لسياسيين من محترفي الشاشات بدلاً من أسرّة المستشفيات ومعاشات الضمان والمدرسة ودار الإفتاء.

فالمعادلة بسيطة ومعطياتها واضحة: مؤسسات على الأرض ضعيفة، شبه منهارة، عاجزة عن الوفاء باستحقاقات وجودها نفسه، مستلبة للشهرة والأضواء والإعلام، وتلفزة تقوى وتتغوّل بنفوذ الذيوع والتأثير الفوري وأدوات صنع الصورة وسطوة الرأي العام، وجمهور يبحث عن حلول فردية وموقتة، فاقد الثقة، عاجز عن الفهم، ومقيد الحركة.

راجعوا أنفسكم، قبل أن تصبح مؤسسات الأمن والعسكرية والاقتصاد والحكم أيضاً متلفزة، فننعي جميعاً دولة المؤسسات، وبعدها مؤسسة الدولة.

* كاتب مصري