كل شيء إلى ازدياد وارتفاع في سورية. التعداد السكاني، الفقر، البطالة، الفساد ... وأشياء أخرى.

Ad

للمرة الأولى منذ زمن طويل، يرتفع عدد السوريين المقاطعين عفويا الانتخابات التشريعية إلى حده الأقصى. جرت الانتخابات الشهر الماضي، في مراكز اقتراع معظمها شبه خالٍ. «مسبقة النتائج، مثل بطاقات الهاتف المحمول مسبقة الدفع!» ... هكذا علَّق أحد المواطنين، مبررا أسباب مقاطعته. وزيرة المغتربين علّقت بدورها بنزَق، على قرار المعارضة مقاطعة الانتخابات، «المعارضة..متواطئة من أجل تفتيت المنطقة»، و«لا يوجد فرق بين الأميركي والمعارضة التي لاترغب في أن نبني بلدنا، والأميركي يعتمد في المنطقة على المهزومين داخليا ونفسيا». ووفقا لحساباتها، ارتفع أخيرا عدد السوريين المهزومين نفسيا وداخليا إلى أقصاه.

أحد أهم أسباب الهزيمة الداخلية فيما يبدو، يعود إلى أولئك الذين اتهموا أخيرا بـ«إضعاف الشعور القومي».

خلال الأسبوعين الأخيرين، أصدر القضاء السوري أحكامه بموجب تلك التهمة وغيرها، في حق عدد من معتقلي الرأي. تراوحت الأحكام ما بين السجن ثلاثة أعوام إلى اثني عشر عاما. تزيد هذه الأحكام في حديها الأعلى والأدنى، عن تلك التي صدرت في حق ما بات يعرف بمعتقلي ربيع دمشق عام 2002. الزيادة هنا مجانية، من أعمار المعتقلين، ولهؤلاء قصة أخرى.

وأوردت صحيفة «الوطن» القطرية في منتصف مايو الجاري خبرا مفاده، أن مصادر سورية مطلعة «لم تستبعد أن يصدر الرئيس الأسد عفوا عن عدد من السجناء السياسيين ومعتقلي الرأي، وذلك في إطار الصفح عمن ارتكبوا الخطايا في حق الوطن، ومنحهم الفرصة لكي يعودوا إلى جادة الصواب ويساهموا في بناء سورية الحديثة».

مؤشر الارتفاع الذي يشير إليه هذا التنبؤ أو التسريب – من يعلم؟- يكمن في حجم الصفاقة التي يمثلها وصف «المصادر السورية المطلعة» إياها لهؤلاء بمرتكبي الخطايا، يرفع من أسهمها في بورصة إذلال الذات، لأنه يزيد من قهر وطن يحتفظ بصفوة أبنائه ونخبتهم في المعتقلات والسجون. ويزيد من عدد الرسائل المرسلة داخليا (نحن نهتم بشؤونكم ونفكر عنكم..لا ترتكبوا حماقة التفكير والحرية)، وخارجيا (أنتم اهتموا بشؤونكم، لنا «ديموقراطيتنا» ولكم ديموقراطيتكم). والأهم من ذلك، تعزيز الحقيقة القائمة، حول أن شيئا لم يتغير في هذا البلد، القابع منذ دهر في حلقة مفرغة من قمع وإفقار وتيه.

ليس جميلا أبدا، أن تكون أحد تقاويم السوريين المعتمدة، تاريخ اعتقال فلان، أو الإفراج عن فلان. وليس من خفة الظل أن تغزو الأنظار لافتات «الأعراس الديموقراطية»، في لحظات إعلان وفاة القضاء السوري، وتأكيد تابعيته المطلقة للقرار الأمني- هكذا «مصادفة» تزامنت تلك الأحكام مع «عرس» الانتخابات. ليس طريفا أبدا الحديث عن «سورية الحديثة»، في الوقت الذي لا يزال فيه الماضي بكل قباحاته جاثما في حاضرنا. لكن ذلك بالضبط ما يميز السياسة الداخلية السورية عن بقية دول العالم أجمع.

الإمساك بالسلبية، ودولبتها (تعذيبها بالدولاب!) حتى تعترف بأنها إيجابية. ثم التشديد على إيجابيتها. ثم تتويجها كالإيجابية الأولى في الكون. ثم نغدو شعبا سعيداً.

مع ازدياد الوضع الاقتصادي سوءا، نكتشف عبر تصريح مسؤول، أننا نشهد انتعاشا اقتصاديا. مع زيادة حدة الفساد وفجوره، يخبروننا أن هذا الفساد أحد أشكال الشفافية. كلما ازداد التسلط حدة، وقمع الحريات شدة، يوجهون إلينا بطاقات دعوة إلى عرس ديموقراطي جديد.

المشكلة الوحيدة في ما ذكر كله، أن السوري عزز قدراته في اللغة العربية عبر تجربة طويلة عمرها أربعة عقود ونيف، هو زمن مدرسة قانون الطوارئ والأحكام العرفية. أصبح أكثر قدرة على التمييز بين فعلي الماضي والحاضر، ولا يمكن أن تمر عليه «خدعة» تمرير فعل ماض في الزمن الحاضر. تعلَم أنه من موبقات اللغة، استخدام الفعل في غير زمانه. أكثر من ذلك كله، أنه أصبح يميل فعلا نحو البساطة. صيغ المبالغة لم تعد تخلق لديه الخيالات التي أريد لها أن تخلق، أو تسدل أمامه ذلك الجدار من الريبة أو الخوف.

العبث باللغة يدفع إلى الكآبة؟! ليس إلى هذا الحد. في أحد أوجهه، هو يُظهر الكثير من التلعثم وتلبك الفكر وتلبد الأفق لدى المتكلم. ويدفع المتلقي إلى بحث أكثر جدية عن لغة أكثر حصافة.

السوريون الذين قاطعوا الانتخابات التشريعية أخيرا، لم يسعوا نحو «تفتيت المنطقة»، كما اعتقدت السيدة وزيرة المغتربين، بل سعوا -بفعل سلبي- نحو تفتيت خطاب بائد يعبر عن واقع بائس.

يبقى أن الزمن ليس في مصلحة المبالغة في الصيغ، ولا المبالغة في السلبية. لعل ذلك بالضبط ما أراد معتقلو الحرية في سورية قوله. ألا هل بلغوا؟

كاتبة سورية