رغم تداول قانون الذمة المالية منذ عام 1992، فإنه كان في قاع أولويات الحكومة ومجالس الأمة المتعاقبة، لكنه بدأ يطفو إلى السطح بالتدريج حتى أصبح اليوم محل إجماع النواب، بل كان قاب قوسين أو أدنى أن يُقر قبل العطلة الصيفية الحالية، لكن تم تأجيله في اللحظة الأخيرة وبفعل فاعل.قانون الكشف عن الذمة المالية أو ما يعرف بلغة الرقابة والشفافية بقانون «من أين لك هذا؟» يعد من التشريعات الراقية في كبح جماح استغلال النفوذ والاسترزاق الشخصي من موقع القرار، ويعتبر هذا القانون صمام أمان لحماية المسؤول والمحافظة على الأموال العامة على حد سواء، فلطالما كانت المادة مغرية وشهية ولا يمكن الصمود أمام تيارها الجارف بالإرادة الذاتية أو الوازع الذاتي فقط، خصوصاً في بلد مثل الكويت حيث يوصف المخلص والأمين بالغباء والسذاجة إذا ما خرج من المنصب غير منتفخ الجيب والبطن، وأمام ميزانية ضخمة تخصص نصفها للمشاريع العملاقة والفضفاضة وبأموال سائبة من السهولة الالتفاف على الكثير منها.
وعلى الرغم من تداول قانون الذمة المالية منذ عام 1992، فإنه كان في قاع أولويات الحكومة ومجالس الأمة المتعاقبة، ولكنه رغم ذلك بدأ يطفو إلى السطح بالتدريج حتى أصبح اليوم محل إجماع النواب، بل كان قاب قوسين أو أدنى أن يُقر قبل العطلة الصيفية الحالية، لكن تم تأجيله في اللحظة الأخيرة وبفعل فاعل!
وهذا القانون سوف يبقى تحدياً كبيراً للجميع واختباراً حقيقياً لمصداقية برامج الإصلاح الذي ترفعه الحكومة منذ تولي الشيخ ناصر المحمد رئاسة الوزراء وترجمة حقيقية لما أعلنه
أغلبية النواب خلال حملاتهم الانتخابية وفي ظل الرصد الدقيق لهم من قبل الرأي العام ومؤسسات المجتمع المدني، ومن هنا يمكن القول إن إقرار القانون أصبح شبه محسوم وإن كانت هناك مخاوف من تعطيله أو محاولة إجهاضه أو حتى ولادته مشوهاً.
فالموافقة على هذا القانون لا تنطلق من مبادئ الحرص والمسؤولية عند الجميع، فهناك شريحة من مصلحتها إقرار القانون لأنها أصبحت متحكمة بمفاصل القوة الاقتصادية وتمكنت عبر سنوات من غياب الرقابة وبالوسائل المشروعة وغير المشروعة من خلق إمبراطوريات مالية فرخت مؤسسات إعلامية وجبهات سياسية وأجهزة قانونية تجعلها حتى بعد إقرار القانون على قمة المنافسة وأكل الأخضر واليابس من المشاريع الكبرى القادمة وبقوة القانون.
أما الشريحة الثانية للمتحمسين الجدد لإقرار قانون الذمة المالية فدافعهم في ذلك تبدل قوى النفوذ وتحول مراكز القرار ولذلك تتجه مصلحتهم الى سد الطريق أمام القادمين الجدد من المنافسين الذين يمكنهم بصفقة واحدة من مشاريع الطاقة أو النفط أو أراضي أملاك الدولة أن يضربوا ضربة العمر وأن يحققوا من مكاسب وأرباح ما جناه المعسكر القديم خلال نصف قرن من الزمن، فإذا كانت صفقات الستينيات والسبعينيات بعشرات الملايين والثمانينيات والتسعينيات بمئات الملايين فإن مشاريع الألفية الثالثة تعد بالمليارات.
ولحفظ حقوق الأغلبية الصامتة والمغلوب على أمرها من الشعب الغارق في الديون والمحبط من تدني الكثير من خدماته الأساسية والحياتية، وحتى لا يضيع في أتون الصراع الجديد بين الإمبراطوريات الاقتصادية القديمة والقادمين الجدد لابد من تحقيق أمرين رئيسين: الأول أن يسري قانون الذمة المالية بأثر رجعي وأن يكشف عن حسابات المسؤولين الذين تعاقبوا على مراكز القرار منذ الاستقلال لنعرف من أين «كان» هذا الرصيد الكبير من الغنى والثروة. والأمر الثاني أن تكون في المشاريع الحيوية المستقبلية حصة ثابتة للمواطن العادي ليكون بمأمن في جولات صراع الفيلة المقبل.