Ad

يذكر الكاتب، في هذه الحلقة «ما دار في الاجتماعات السرية التي عقدت بين صدام وعدد من الوفود التي جاءت إلى بغداد لإقناعه بضرورة الانسحاب من الكويت وتلافي الحرب المدمرة لبلاده»، وذلك استناداً الى وثائق اطلع عليها من مختلف الدوائر الرسمية العراقية. وتثبت الوقائع الوهم الذي كان يتملك صدام إذ أظهر تكبراً فارغاً سال بسببه كثير من الدماء.

«في العشرين من أغسطس 1990، استقبل صدام وفداً يمنياً رسمياً برئاسة النائب الأول لرئيس الوزراء حسن مكي، ضمّ عضو مجلس الرئاسة صالح سالم محمد وآخرين. وكان قد سبق هذا الوفد زيارة قام بها الرئيس اليمني علي عبد الله صالح، إذ كلفه صدام بإجراء اتصالات مع السعوديين، ومع الكويتيين الذين كانوا في الخارج نتيجة الاحتلال، ومع واشنطن، وكانت زيارة الوفد اليمني لإطلاع صدام على نتائج الاتصالات التي قام بها الرئيس اليمني.

في بداية الاجتماع قال صالح سالم محمد لصدام: لقد تحدثنا مع خادم الحرمين ومع شقيقه الأمير سلطان (وزير الدفاع). انهم يعتقدون جازمين ان العراق ينفذ مؤامرة ضد المملكة العربية السعودية وقد اتهموا الأردن بالضلوع فيها. إن الملك فهد (بن عبد العزيز) يؤمن بأن المملكة هي الثانية في لائحة الاحتلال، وأن احتلال الكويت ليس الا الحلقة الأولى في سلسلة الاحتلال التي سينفذها العراق تباعاً. وبعد تنفيذ الحلقة الثانية، المتمثل في احتلال السعودية، فإن العراق سيعلن واقعاً جيوبوليتيكياً جديداً في المنطقة. ويرى الملك فهد أن هدف هذا الواقع هو تقسيم المملكة والكويت الى ثلاثة أجزاء بين العراق والأردن واليمن.

في اليوم ذاته، أي 20 أغسطس، اجتمع صدام مع وزير خارجية الهند كوغرال حاملاً رسالة شفهية من وزير خارجية الاتحاد السوفييتي آنذاك ادوارد شفيرنادزه.

دخل كوغرال رأساً الى قلب الموضوع إذ قال لصدام: إنكم لم تعرضوا قضيتكم بشكل جيد على المجتمع الدولي. هناك الكثير من نقاط سوء الفهم، خصوصا بينكم وبين الاتحاد السوفييتي، وأنا هنا لأحاول إزالة سوء الفهم هذا. قال صدام: أحب أن استمع الى كل ما ستقوله. قال الوزير الهندي: يوم الثلاثاء الماضي كنت في موسكو، واجتمعت مطولاً بوزير الخارجية. لقد شعرت ان شفيرنادزه قلق جداً من احتلالكم الكويت؛ إن عملكم هذا سيجلب قوات اجنبية الى المنطقة، وهو يعارض وجود قوات أميركية أو غيرها في المنطقة، وهو يرى أن خروجكم من الكويت بأسرع وقت ممكن خير طريقة لمنع حدوث ذلك. وقد طلب مني أن أنقل اليكم مخاوفه هذه. قال صدام: وماذا بإمكانه أن يفعل؟ ردّ الوزير الهندي: إنه يرغب في عمل شيء ما في إطار الأمم المتحدة التي لم تتحرك الى الآن لمواجهة الأزمة. انه يريد أن يدفع الأمم المتحدة الى التحرك. وقد طلب مني أن أبلغك أن قلقه الشديد نابع من روح الصداقة وهو لا يرغب في ابقاء العلاقات الجيدة معكم في مستواها الجيد الحالي فحسب، بل يرغب في تقوية هذه العلاقات. قال صدام بصوت مرتفع قليلاً: ان الاتحاد السوفييتي ليس موجوداً في المنطقة ولا في العراق، وهو يواجه الولايات المتحدة من دون غطاء دولي؛ نحن لا نتوقع من موسكو أن تساعدنا كما فعلت مع مصر وسورية في حربي 1967 و1973. هناك ظروف خاصة يمر بها الاتحاد السوفييتي ونحن نفهمها ونقدرها. إن جوابي على رسالة شفيرنادزه هو الآتي: نحن نطلب منهم ان يسألوا أنفسهم السؤال التالي: كيف ستتأثر مصداقية الاتحاد السوفييتي في المنطقة والعالم إذا استطاع الأميركيون شن حرب ضدنا؟ وكيف ستتصرف موسكو في حال نجاح الأميركيين في ذلك؟ أكثر من ذلك، كيف ستتعامل الولايات المتحدة مع أوروبا واليابان إذا نجحت في تنفيذ مخططها بالسيطرة على منابع نفط الشرق الأوسط؟ وانتقل صدام من الجد الى السخرية، فقال: هل ينبع قلق السيد شيفرنادزه من الوجود الجسدي للأميركيين في المنطقة، أو لأنه لم يتمكن من فعل أي شيء، وهو يمثل دولة عظمى، لفك الحصار المفروض علينا من قبل الأميركيين؟

في مواجهة موجة التشاؤم والسخرية التي أطلقها صدام في وجه الوزير الهندي، حامل الرسالة السوفييتية، وجد الوزير نفسه مضطراً الى الدفاع عن موقف موسكو، فقال رداً على صدام: سأكون صادقاً وشريفاً معك. ان الاتحاد السوفييتي سيوافق على قرار الحصار في الأمم المتحدة، ولكنه لن يكون جزءاً من هذا الحصار، إن قلقهم الشديد نابع من الموقف الجديد الذي وجدوا أنفسهم به. إذ لم يعد باستطاعتهم السيطرة على السياسة الأميركية في المنطقة بل في العالم أيضا، وهم يعتبرون أن احتلال الكويت يضيق الخناق عليهم، وإن خروجكم من الكويت، بالسرعة المطلوبة، وقبل أن تتدهور الأمور، يمنحهم متنفساً هم في أشد الحاجة إليه.

... بعد حوالى ستة أسابيع من هذا اللقاء، قام يفغيني بريماكوف، عضو مجلس الرئاسة السوفييتي في ذلك الوقت، بأول زيارة له لبغداد بعد احتلال الكويت. توجه رأساً من المطار الى حيث اجتمع بصدام، وقد سجلت المحاضر الرسمية العراقية التي اطلعت عليها الحوار الذي دار بينهما على الشكل التالي:

• صدام: نحن لا نريد الحرب، لكن هذا لا يعني أننا لن نقاتل اذا فرضت الحرب علينا. على الصعيد الشخصي، فإن الرفيق بريماكوف يعرف أنني قبل أن أصبح زعيماً في بلدي كنت مقاتلاً، وأكثر من ذلك فإن الرفيق بريماكوف يعرف أكثر من غيره التضحيات التي قدمناها في الحرب مع إيران. على الصعيد الاقتصادي والتكنولوجي فإن بلدنا قد دمّر ولم يعد لدينا شيء، وانخفضت مبيعات النفط إلى المستويات الدنيا، وهي لا تزال تنخفض، والتجارة ممنوعة علينا، سماؤنا مقفلة، وأنت وعدت بأن تفعل شيئاً لكنك لم تفعل. لم يبق لدينا ما نعيش عليه اليوم سوى الزراعة لأن لا أحد يستطيع أن يمنع عنا مياهنا، أو أن يضع أرضنا على ظهره ويسير بها بعيداً.

• بريماكوف (بعد أن تجاهل تعليقات صدام الجارحة): ان انسحابك من الكويت سيطلق أيدينا، وكذلك أيدي الأصدقاء في بقية أنحاء العالم من اجل التوصل الى حلّ سلمي.

• صدام (بعد ان فقد اتزانه وعلا صوته): ماذا تريدني أن أقول للجيش العراقي الموجود في الكويت؟ هل أقول لجنودنا انكم ستنسحبون لأنني اعطيت وعداً بذلك، وأنكم هزمتم قبل أن تبدأ المعركة؟ ثم ماذا سأقول لبقية الشعب العراقي، هل أقول لهم أننا سننسحب من الكويت وعليكم ان تعانوا من الحصار؟ لا يوجد بين أيدينا أوراق قوية تجعلنا نثق بأن الحصار سيرفع في حال انسحابنا؟ (طارق عزيز الذي حضر المقابلة قال لي في ما بعد أن صدام لاحظ أن صوته كان مرتفعاً، فركن الى الصمت قليلاً الى حين أن استجمع روعه). وتابع صدام: الرفيق بريماكوف، سأكون صريحاً معك الى أبعد الحدود، وأطلب منك المعاملة بالمثل. ليس في مقدور الاتحاد السوفييتي ان يرفع الحصار. لنفترض أننا وعدناك بالانسحاب من الكويت، وبقي الحصار مفروضاً، فهذا يعني أننا سنكون تحت رحمة الولايات المتحدة لتمنحنا إذا أرادت القليل من الخبز والدواء. كذلك فإن هذا الوضع قد يستمر عشر سنوات الى حين تتمكن واشنطن من سحق النظام، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً. رفيق بريماكوف، إذا أعطيتك بعض الليونة في موقفي اليوم، فإلى من ستقدمه؟ هل باستطاعتك، كممثل للاتحاد السوفييتي، ان تعطيني شيئاً بالمقابل، أو أنك ستأخذ هذه الليونة لتضعها بين أيدي بوش و(الملك) فهد؟ (لم يكن صدام مدركا وهو يقول ما قاله، انه يلمس نقطة ضعف حساسة جداً قد تؤدي الى دفع السوفييت إلى أحضان خصومه. فهو يشكك في قدرة الاتحاد السوفييتي، في الوقت الذي تسير فيه هذه الدولة العظمى بخطوات حثيثة نحو التفكك. لو أدرك صدام أبعاد ما قاله لكان لجم لسانه عن النطق... هذا كان رأي طارق عزيز الذي حضر المقابلة. لكن صدام لم يفعل، بل استمر في اللهجة ذاتها). قال متابعاً: وماذا عن إسرائيل التي تنتظر هي الأخرى دورها لفرض شروطها علينا؟ أقول ما أقوله من دون أن أحاول التقليل من قدرة الاتحاد السوفييتي. أنا أفهم ظروفكم بشكل جيد، ولهذا امتنع عن القول أن الولايات المتحدة تستطيع وبسهولة أن تفرض القرارات التي تريدها على الأمم المتحدة من دون اعتراض أحد. لم نعد نهتم بالأمم المتحدة ولا بقراراتها في هذه الايام، حتى أننا توقفنا عن عملية احصاء هذه القرارات التي صارت اليوم ثمانية قرارات، أليس كذلك؟

بعد أن وضع أرضية تصغير الاتحاد السوفييتي وعجزه في مواجهة الأمم المتحدة، حاول صدام أن يقوم بمناوراته السياسية مع بريماكوف إذ قدم له شروطاً تعجيزية ثمناً لانسحابه من الكويت. قال له ان الانسحاب المطلوب يجب ان يحدث في اطار خطة اشمل اختصرها صدام في ثلاث جمل: انسحاب اسرائيل من كل الأراضي العربية، انسحاب سورية من لبنان، ثم يأتي دور العراق في الانسحاب من الكويت، على أن تتزامن هذه الانسحابات الثلاثة. ثم قال لبريماكوف: قبل أن ندخل الى الكويت، إسرائيل شجعت الولايات المتحدة للموافقة على خطة قتل صدام وعائلته منفردين، ولدينا الوثائق لإثبات ذلك، ثم تابع: ماذا يخسر الاتحاد السوفييتي اذا تبنى مشروعاً يربط مشكلة الكويت بالأزمة الفلسطينية؟ في رأيي ليست هناك خسارة بل ربح مضمون في العالم العربي أولاً وفي الساحة الدولية ثانياً. وإذا ما فعلتم ذلك فإنكم تثبتون، بما لا يدع مجالاً للشك، أن الاتحاد السوفييتي ما يزال يملك صوتاً مسموعاً في الولايات المتحدة. أما إذا أردتم أن تتقدموا بمشروع لحل المشكلة من دون الربط بين الانسحابات الثلاثة التي ذكرتها، فسنرفض هذا المشروع جملة وتفصيلا. وبذلك تزيد قناعتنا بأن الاتحاد السوفييتي يهرب من التزاماته السياسية والعقائدية. وإذا ما قلتم إنكم، مع العالم كله، لم نستطع اقناع صدام بالانسحاب، فلن تتركوا للولايات المتحدة سوى خيار واحد وهو الحرب. الرفيق بريماكوف. نحن على استعداد لهذه الحرب ولو واجهنا العالم كله.

... في ما بعد، قال لي طارق عزيز، ان بريماكوف قام بحركة تعني انه اكتفى بما سمعه من صدام إذ نهض من كرسيه وهو يقول مودعاً: ان الموقف الآن أكثر وضوحاً من ذي قبل، ونحن نفهم موقفك بشكل كامل.

خطة ثلاثية الأبعاد

... بعد طرده من الكويت، وضع صدام خطة ثلاثية الابعاد لمواجهة الحصار الذي بدأ يضيق، شيئاً فشيئاً على خناقه. البعد الأول أعطاه الأولوية الأولى في التنفيذ وهو كسر الحصار مهما كلفه الأمر، اعتقاداً منه أن التعويض المعنوي والسياسي لفشله في تحقيق هدفه في الاحتفاظ بالكويت لا يتم إلا إذا كُسِرَ هذا الحصار بقواه الذاتية. وقد قال لي طه ياسين رمضان، وأكد هذا القول، أكثر من قيادي ينتمي إلى «الحلقة الضيقة» إن صدام قال لهم، في مناسبات عدة، إن الحصار، اذا رُفع بقرار من الأمم المتحدة، فهو يعتبره هزيمة. «أما إذا استطعنا كسره فإننا بذلك نكون قد كسرنا أنف الولايات المتحدة، واسترجعنا ما فقدناه في حرب عاصفة الصحراء»، كذلك فإن كل الجهود، في تلك المرحلة، كانت تستهدف «كسر» الحصار لا رفعه.

البعد الثاني في خطته الثلاثية هو التخفيف من ضرر الحصار على مختلف الصعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية. حتى إذا بدأ الحصار يضعف ويتلاشى أعاد الخطة إلى بُعدِها الأول، وهو الكسر لا الرفع. والبعد الثالث هو «التحرش ايجابياً» بالولايات المتحدة، بواسطة تقديم مختلف الاغراءات السياسية والاقتصادية، من أجل تليين موقفها من النظام، وفي حال نجاح ذلك تتضافر كل الجهود لكسر الحصار، لا لرفعه.

وكان واضحاً، كما ذكرت أعلاه، أن رغبة صدام المركزية هي «كسر أنف» الولايات المتحدة أولاً وأخيراً. أما الحصار الذي بدأ الشعب يعاني منه على مختلف الصعد، فهو هدف ثانوي لا يرقى إلى مستوى الهدف الأول والأساسي.

في أحد لقاءاته بالحلقة الضيقة، طلب صدام الإسراع بالعمل في البنود الثلاثة لخطته، ووزع المسؤوليات فكان نصيب طارق عزيز مهمة اضعاف الحصار على المستويين العربي والدولي، دبلوماسياً، ومهمة طه ياسين رمضان تجييش القوى الشعبية، داخل العراق وخارجه، بينما اتخذ لنفسه مهمة «اللعب» مع الولايات المتحدة. وهذا يعني فرض سيطرته الكاملة على كل شاردة وواردة تتعلق بواشنطن، من الأمور الكبيرة إلى التفاصيل الصغيرة جداً. كذلك اتخذ صدام، في ذلك الوقت قراراً بتجميد نشاط المخابرات العراقية في الخارج، ونقله الى الداخل للمساهمة في السيطرة على الوضع الداخلي بالقبضة الفولاذية، وأبقى هامشاً ضيقاً لعمل المخابرات في الخارج، وهو متابعة نشاط المعارضين العراقيين لمعرفة تأثير هذا النشاط على الوضع الداخلي.

استفاد صدام من حربه مع إيران ومن الخطأ الذي ارتكبه في تقدير مدى هذه الحرب. فبينما وضع خططه العسكرية والتعبوية على أساس أن الحرب مع إيران لن تدوم أكثر من ستة أشهر، ينهار بعدها نظام الخميني، فهو اليوم في حرب «كسر أنف» الولايات المتحدة أعطى تقديراً زمنياً بعشر سنوات، مرشحة لعشر سنوات أخرى، وأصدر أوامره الصارمة بالاستعداد، في كل المجالات، لهذه الحرب الطويلة، والتضحية بالغالي وبالرخيص لتحقيق النصر.

قال لي حامد حمادي، بعدما انتقل من مديرية ديوان الرئاسة الى وزارة الاعلام وعيِّن وزيراً، في تلك الفترة الزمنية، أن صدام شغوف جداً باللعب مع الأميركيين الى درجة أنها أصبحت لعبته المفضلة، وكان يؤمن ايماناً راسخاً بأن الغلبة ستكون من نصيبه في النهاية، وأن صدام سيقبل على مضض لو قدّم له الأميركيون اليوم أو غداً مشروعاً لا يتضمن «كسر أنوفهم». ثم قال حمادي بسخرية: لكنه يقبل بمشروع يسيل دماء أنوفهم دون كسرها كحل وسط من دون مناقشة.