Ad

قبل أن يقوم الإيطالي ليوناردو دافنشي بتسجيل تصوراته لمخترعات المستقبل كان عالم عربي قد سبقه بعدة قرون إلى ابتكار بعض الحيل الميكانيكية القريبة الشبه بفكرة الآلية «الأتوماتيك» التي نألف تطبيقاتها الآن.

هذا العالم هو ابن الرزاز الجزري الذي كان أحد أبرز المهندسين العاملين في خدمة بلاط نور الدين محمد بن قرا أرسلان أحد سلاطين بني أرتق في ديار بكر «كردستان».

ولما كان هذا الأمير مأخوذاً بمخترعات مهندسه الغريبة طلب منه أن يصنف مقالاً عنها، فكان كتاب ابن الجزري «كتاب الحيل الجامع بين العلم والعمل» الذي تم إنجازه في عام 605هـ (1206م)، ورغم أن المخطوط الأصلي الذي كتبه الجزري وأهداه إلي السلطان الأرتقي قد فقد فإنه من الواضح عبر النسخ التي وصلتنا منه أنه كان مزوداً بالرسوم التوضيحية التي تواتر نقلها من مخطوط إلى آخر بحذافيرها ودون أدنى تغيير.

ومن أهم النسخ التي وصلت إلينا من كتاب الحيل الميكانيكية مخطوط يحتفظ به في متحف طوبقابوسراي بإستانبول وهو من نسخ «محمد بن يوسف بن عثمان» في سنة 652هـ (1254م) ويشتمل على 86 ورقة، ببعضها رسوم توضح الآلات المختلفة وما يتصل بتركيبها من صور آدمية وحيوانية ورسوم طيور.

وفي مجموعة «سيفورد كيان» الموجودة بأميركا مخطوط آخر من كتاب الحيل تم نسخه في مصر عام 715هـ (1315م) ويحتفظ متحف «فريوغاليري» في واشنطن بمجموعة من تصاوير هذا المخطوط كما يحتفظ متحف الكويت الوطني بواحدة من تصاوير نسخة مخطوطة من كتاب الجزري.

ومهما يكن من أمر النسخ المخطوطة من هذا الكتاب فإن مادته العلمية والفنية تكشف مدى عمق التداخل بين مختلف التيارات الحضارية التي عرفها الشرق. فالمعرفة العلمية الضرورية للآلات التي ابتكرها الجزري لتقوم بأداء حركات ذاتية إنما تستمد في حقيقة الأمر من الاكتشافات الرياضية الميكانيكية التي وضعها «أرخميدس» وغيره من علماء الإغريق، وأصبحت بالتالي مألوفة عن طريق المصنفات اليونانية التي وضعها أمثال «أهرون السكندري» و«فيلون البيزنطي».

ولما كانت الكتب القديمة تضم رسوماً توضيحية لتبين طبيعة ووظيفة مختلف الحيل فقد شاع استخدام هذه التصاوير في كتاب ابن الرزاز الجزري عن الحيل الميكانيكية.

ومن الحيل التي ابتكرها الجزري واحدة نراها في ورقة معروضة في متحف الكويت الوطني وكانت في الأصل جزءاًً من مخطوط نسخ بمصر في عام 715هـ (1315م)، وهي تمثل دوارة للرياح تنبئ عن اتجاهها بحيلة ميكانيكية بسيطة.

أما مخطوط إستانبول الشهير الذي آلت بعض تصاويره إلى متحف المتروبوليتان بنيويورك، فأهم تصاويره مجموعة من الساعات منها الساعة الفيلية وفيها يؤشر على مضي الساعات بثلاث طرق متباينة، فمن الناحية العملية يمكن قراءة الوقت أولاً من ميزان تشير إليه صورة شخص دائرة في أعلى الفيل وثانياً من قرص كبير على قمة هيكل يشبه القلعة قائم على ظهر الفيل، حيث تتحول سلسلة من الفتحات السوداء الواحدة تلو الأخرى إلى فتحات بيضاء بمضي كل ساعة.

والغرض من الطريقة الثالثة يكمن في قيمته الترفيهية، والواضح أن هذا الغرض هو أساس الاختراع لهذه الساعة الفيلية، ففي كل نصف ساعة يصفر الطائر الواقف في أعلى القبة ويستدير في الوقت الذي يضرب فيه سائق الفيل بفأسه ويحدث صوت دقة بمضرب الطبل.

وبالإضافة إلى ذلك يحرك الرجل الصغير الذي يبدو عليه وكأنه يتطلع من نافذة في جهة اليسار العليا ذراعيه وساقيه ليحمل النسر في الجهة السفلى على إطلاق بندقة، وعندما تتحرك هذه البندقة إلى أسفل تجعل التنين يستدير إلى أن تهبط بصفة نهائية في الزهرية على ظهر الفيل. ومن هنا تسقط في جوف الحيوان لتمس ناقوساً من النحاس ومن ثم تستقر أخيراً في طاسة صغيرة. وبذلك يستطيع المشاهد للحيلة أن يحصي أنصاف الساعات التي مضت وذلك باحتساب عدد الكرات الصغيرة التي تجمعت في الطاسة.

وهذه الآلة التي سبق وصفها استفادت منها أوروبا أو بالأحرى من أفكارها الرئيسية في عمل الساعات المتقنة الصنع والتي عثر عليها في قاعات الاستقبال الرسمية بالقصور وفي كنائس المدن التي تعود إلى العصور الوسطي والتي يكون فيها مُضي الوقت أكثر إتقاناً وذلك عن طريق التمثيل المسلي للتماثيل المتحركة.

ولا بد من الاعتراف بأن فكرة الفيل الذي يحمل هودجاً متقن الصنع أشبه بالبرج هي فكرة شرقية صميمة وقد جاءت في الأصل من الهند، كما يبدو واضحاً من تمثيل سائق الفيل في صورة رجل هندي داكن البشرة ولا يرتدي سوى سروال قصير وغطاء رأس صغير مسدول.

ورغم ذلك فإن منخس الفيل والفأس مع أنهما قد صنعا بالمواصفات التي أعطاها الجزري في كتابه فإنهما غير هنديين من حيث طرازهما وهيئتهما على وجه التأكيد.

ويعتقد عالم الآثار الأميركي «أيتنغهاوزن» أن هذا التغيير قد حدث لأن صورة الهندي المستعملة على نطاق واسع في العالم الإسلامي كانت رمزاً لكوكب زحل الذي كان يصور عادة بمثل هذه الأداة شعارا له.