Ad

كان الصبي الصغير يستيقظ مع بزوغ الفجر ليجد والده سابحاً بنور التلفاز والى جانبه دفتر لتدوين الملاحظات. كان والده، والاس، عاملاً بسيطاً يكدّ في مصنعٍ للنسيج. لم يتسنّ له إنهاءالمرحلة الثانوية في مدرسته فشفى غليله بمتابعة دروس في الرياضيات عبر محطة تلفزيونية تثقيفية قبل التوجه إلى العمل. كان يتوق إلى تحسين أدائه ومركزه في شركةٍ لا تولي احتراماً إلا لحاملي الشهادات الجامعية.

كان وضعه المؤسف في مصنعٍ خدم فيه قسراً ما يفوق الثلاثين عاماً يرخي بظلاله على العائلة. وكان ابنه جون مدركاً للاجحاف الذي يتعرّض له أبوه الذي لم يرقّ يوماً إلى مناصب قيادية رغم نباهته ونشاطه المنقطع النظير، بل كان بالعكس يكلّف أحياناً بتدريب مديري المستقبل: أمثولة أخذ منها جون ادواردز الكثير من العبر، يقول: «رأيت والدي يكافح جاهداً بسبب عدم امتلاكه شهادة جامعية مع أنه من أفضل الرجال الذين عرفتهم في حياتي وكان بالنسبة إلي مثالاً حياً للانسان الجبار والصالح والكادح الذي لا يوفر جهداً ولكنّهم لم يقدّروا مجهوده يوماً!»

من بين كلّ المرشحين الحاليين لاستحقاق 2008 الرئاسي في الولايات المتحدة يبدو جون ادواردز الأكثر إسهاباً في ذكر أصله، هو المنحدر من عائلة عاملة تتّخذ من صناعة النسيج مصدر رزق لها في ولايتي كارولينا وجورجيا. ينعت نفسه بـ«ابن عامل النسيج» سارداً قصصاً عن لحظات العوز وكيف اضطر والده ذات يومٍ إلى اقتراض 50 دولاراً بفائدة 100% ليعود بابنه الحديث الولادة الى البيت من المستشفى. إنّه ذلك الولد بعينه، رغم تناقض الصورة البسيطة هذه مع شخصية المحامي السابق الأنيق الذي تقدر ثروته بالملايين حتى باتت الثرثرات حول قصة شعره التي تكلف 400 دولار، ومنزله الذي يساوي 6 ملايين دولار دليلاً قاطعاً على أنّ الماضي الرغيد لا يشكّل بالضرورة جواز عبور إلى الحياة السياسية.

إنتقادات وجهود

 يبرّر ادوارز حملة الانتقادات التي يتعرّض لها بين الفينة والاخرى بـ«اعتبارات سياسية بحتة». قد يثير نعته بالمحامي الثري حفيظته ولكنّه لن يتخلّى عمّا تعب جاهداً لتحقيقه ويتساءل هنا: «هل كنت أوفر حظاً للرئاسة لو أنني لم أكن بهذا القدر من النجاح؟»

أن ترى ادواردز يبذل جهوداً حثيثة في نيو هامبشاير، حيث سجّل بخجلٍ المرتبة الرابعة بين الديمقراطيين عام 2004، هو أن ترى ابن ابيه في فورة عمله، مصمماً على تذليل العقبات السابقة، مسلحاً بخطة من 76 صفحة معدّة لمحاربة فقر الريف ومساعدة الطبقة الكادحة، منصباً نفسه شعبوياً «سيحارب من أجلكم»!

ولعله يوحي بأنه الأضعف ولكنه يعلم في قرارة نفسه أنه يملك أوراقاً رابحة أخرى: «خلت نفسي أقل ذكاءً من الآخرين عندما انتسبت إلى الجامعة، وخلت نفسي أقل ذكاءً من الآخرين عندما دخلت قاعة المحكمة وكذلك فعلتُ حين دخلت مجلس الشيوخ».

أسوةً بوالده، الذي لم يأل جهداً لنيل منصب مراقب في المصنع فيما كان مشرفاً على تتويج مهنته بالتقاعد، تجد جون مستعداً لوصل ليله بنهاره لإثبات جدارته.

كانت قرية روبنز بعدد سكانها البالغ 1000 نسمة والقائمة على مسافة 60 ميل غرب راليه المحطة الأخيرة في سلسلة قرى النسيج الجنوبية التي أقام فيها آل ادواردز أثناء عمل والاس في مؤسسة ميليكان وشركاه ولم يكن جون الصغير واسمه في سجل الولادة «جوني رايد ادواردز» وما زال والداه يناديانه «جوني» قد تجاوز الثانية عشرة عندما انتقلت العائلة. يقول ادواردز عن المدينة إنّ «للعيش فيها فوائد جمة فلا أحد فيها يجهل الآخر وحين غادرتها تملكني الخوف خصوصاً أنني لم أقم في أية بلدة أو مدينة غيرها».

ما زال والاس وبوبي ادواردز يقيمان في روبنز وقد مضى 56 عاماً على زواجهما وأصبحا اليوم في سن التقاعد غير أن الالتحاق بالجامعة لم يقع يوماً ضمن خيارات الزوجين لا سيما أن اجتياز المرحلة الثانوية كان بمثابة انجاز في هذا المكان والزمان فكانوا يكتفون بالأحلام متحسرين على مآثر كان يمكن تحقيقها على حد تعبير بوبي.

ومع ذلك كان الزوجان مصرين على إرسال الأولاد إلى الجامعة وتحدي العراقيل ولا شك في أن ولدهما البكر هو مدعاة فخر بالنسبة إليهما كونه أول فرد في الأسرة يلتحق بالجامعة.

ظروف عصيبة

حين ولد جون في 10 يونيو 1953 كان والاس يكسب نحو 85 سنتاً في الساعة في مصنع سينيكا والعائلة تعيش أحوالاً يرثى لها في كنف منزل بسيط تابع للشركة وتعلّق بوبي: «كان عليّ أن أقتصد في المصروف إلى أقصى حدّ».

ولا يخفي والاس أنها كانت تعمل بدورها فعقبّتْ على كلامه مؤكدةً: «في أيّ مجال، حتى في صناعة النسيج». لكنها سارعت الى التوضيح بأنّ عملها لم ينعكس يوماً سلباً على أولادها فهي كانت تغسل ثيابهم وتكويها وتدفع الفواتير في الوقت المناسب كما كانت تعدّ لهم أطباقاً غنية بما أنّ تناول الطعام خارج المنزل كان أمراً ممنوعاً. وتشير بابتسامة الى أنها توقفت اليوم عن صنع مهروس البطاطا والصلصة بمرق وهو طبق كانت تصنعه مرتين أو ثلاث مرات أسبوعياً».

وما زال جون يذكر اليوم الذي قصدت فيه العائلة أحد المطاعم لتناول الغداء حين كان في التاسعة من عمره «كان المكان يعج بالناس. يقول: و«ما إن بدأت أطالع قائمة الطعام حتى همّ والدي بالرحيل متذرعاً بأن الأسعار مرتفعة خجلت مما جرى على مرأى من الناس وأشفقت على والدي الذي كان رجلاً أبياً».

ذكاء ونصائح

كان جوني يشعّ ذكاء منذ نعومة أظافره وكان ولعه بروايات «الكتب الذهبية الصغيرة» يجلب السعادة لوالديه فتشتريها له بوبي بـ19 سنتاً ويسارع إلى الجلوس في جحر والده طالباً منه أن يقرأها له فيحفظها عن ظهر قلب.

  كانت علاماته المدرسية ممتازة. وحين واجه بعض المشاكل مع أولاد الشارع من الجيران أسداه والده نصيحة لا ينساها: «لا تُقحم نفسك في شجار، ولكن ان صُوِّب شجارٌ ما نحوك لا تلذ بالفرار. إن اضطررت إلى ضرب أحدهم فوجه له ضربةً مباشرة». وعندما انتقلت عائلة ادواردز للعيش في روبنز في العام 1965 كان جون قد اكتسب قدرة تنافسية عظيمة في الملاعب الرياضية وخارجها.

وحين بلغ الصف الأخير في المدرسة علّمه أستاذه بول ماكلندن مبادئ العلوم السياسية والاقتصادية وغالباً ما كانت نقاشات جريئة تدور بين تلامذة الصف حول العلاقات العرقية وسائر المواضيع الآنية وكان جون أبرز مشارك فيها. ويقول ماكلندن: «أذكر أني استدعيته إلى مكتبي ذات يوم إثر نقاش حاد فاقترحت عليه الالتحاق بكلية الحقوق لاقتناعي بأنه يملك ذهناً تحليلياً بامتياز ويجيد التعمق في المواضيع» فأجابني: «يريدني والدي أن أعمل في صناعة النسيج».

كان واضحاً لآل ادوادرز أن جون سيلتحق بالجامعة نظراً لذكائه الحاد وطموحه اللامتناهي ولكنهم لم يحاولوا يوماً الضغط عليه لأنهم لم يكونوا بحاجة الى ذلك، فجون عمل على ملء طلب الدخول الى الجامعة بنفسه وسعى للحصول على مساعدة مالية واختار المواد بمفرده اقتناعاً منه أن والديه عاجزان عن تأمين الدعم اللازم له ولكن مشكلة تأمين القسط كانت تقض مضجعهم فشجعه والده على التخصص في صناعة النسيج لاعتقاده بأن الوظيفة ستكون مضمونة.

غير أن جون كان قد قرر الالتحاق بجامعة كلامسون فخطرت في باله فكرة الاقامة مع جدته لجهة أمه بالقرب من الجامعة والحصول على منحة في مجال كرة القدم وهكذا أقام ادواردز في بلدة وست بوينت ستيفنس أوتيكا الصناعية في جنوب كارولينا خلال الفصل الأول من المرحلة الجامعية. وكان وجدته يتبعان حياة روتينية بسيطة: «كنا نستيقظ باكراً في المنزل الصغير ونقف أمام الموقد اليتيم في وسط الدار، وما إن يشتعل الحطب حتى تبدأ جدتي بإعداد الفطور، ثم اتجه إلى حرم الكلية على بعد 8 أو 9 أميال لاشارك في الصفوف وتمارين كرة القدم قبل العودة إلى منزل الجدة وتذوق أطباقها الشهية».

ولكن خطته هذه باءت بالفشل. فقد نجح ادواردز في الانتساب إلى فريق كرة القدم ولكنه عجز في الحصول على منحة ولم يكن وضعه المادي يسمح له بإكمال المسيرة فأمضى الفصل الثاني في ولاية شمال كارولينا ذات الأقساط المتدنية وتخصص في تكنولوجيا النسيج نزولاً عند رغبة والده. يشرح اليوم: «لم أكن أريد التورط في اختصاص لا يؤمن لي لقمة العيش في المستقبل». غير أن فكرة الانتساب إلى كلية الحقوق كانت مغرية وكلما طالت فترة عمله في مصنع النسيج خلال فصل الصيف كلما ازدادت رغبته في إدخال تغيير جذري على حياته ويضيف: «كان عملاً مقرفاً إذ كان علينا تنظيف السقف في غرفة الحياكة وكانت السلع البالية تملأ المكان وكنت انتقل من عمل لآخر فتارةً أتسلّق هذا المكان او ذاك وطوراً أمسح الشحم من تحت النولات».

وجاء يوم أعطاه أحد قدامى عمال المصنع نصيحةً جوهرية يؤكد أنه لن ينساها مدى الحياة: «لن تمضي ما تبقى من حياتك في ممارسة هذا العمل. عليك إكمال دراستك فالمصنع هذا الى زوال حتميّ بعد 20 عاماً!».

وبالفعل حين أقفل المصنع أبوابه كان والاس ادواردز قد بلغ سن التقاعد، والقوة العاملة تضاءلت حتى بلغت 300 شخص، ولكن الملايين كانت بدأت تملأ رصيد جون ادواردز الابن حتى بات أسطورةً في أوساط المحامين في شمال كارولينا مع ما يكفي من مهارات للتحليق عالياً.