إعلام من الناس وإليهم 2- 2
من الأسف أن إعلامنا لا يقدم كل ما هو مطلوب منه في سبيل تعزيز مبادئ الحرية والتقدم وشروطهما، فهو في أغلب الأحيان منحاز إلى رؤى جهات بعينها ومواقفها وتبريراتها للسلوكيات التي تنال من حقوق المواطنين، وذلك في ظل غياب واضح لسياسة إعلامية متحررة من القيود السياسية والبيروقراطية، تراعي التحولات التي يشهدها المجتمع محلياً وإقليميا ودولياً وتؤمّن حرية في التعبير وتدفق المعلومات وانسياب الأفكار بعد زوال الكثير من العقبات والصعاب، وتطويع معطيات العلم لخدمة الإعلام الحر. وحتى يمكن أن ينتصر الإعلام لقضايا الناس، فلا بد من أن يشارك المجتمع كله بمختلف طبقاته وفئاته وشرائحه وتوجهات أفراده ومشاربهم في صياغة السياسة الإعلامية.وتعاني وسائل الإعلام في بلادنا غياب الحياد بمعناه الإيجابي، فهي لا تتحيز للمصلحة الوطنية العليا، وتصد أي موجات تستهدف مجتمعاتنا ثقافيا، بالدفاع عن منظومة القيم الراسخة في نفوسنا وعقولنا، بل تتحيز إلى وجهة نظر السلطة والمتحالفين معها والمتحلقين حولها أو المنتفعين منها. وغياب هذا اللون من الحياد في إعلامنا يعود إلى ثلاثة أسباب رئيسة:
1- فرض قيود على حرية الوصول إلى المعلومات وحرية تداولها وفرض قيود على حرية التملك وإصدار المطبوعات، وعلى حرية التملك والبث الإذاعي والتلفزيوني وفرض الرقابة على المطبوعات الداخلية والقادمة من الخارج، وفرض قيود على حرية الطباعة والتوزيع والإعلان، وأخرى على حرية التنظيم المهني والنقابي والتحكم بظروف عمل الصحافيين والإعلاميين من خلال قوانين تكرس مفهوم سيطرة الدولة وحرمان الأفراد من حق الاختيار. ويصل تدخل الدولة في بعض الدول العربية إلى حد الاحتكار والسيطرة الكاملة، لكنه يقل عن ذلك كثيرا في بعض الأحوال، حيث تراقب الدولة أداء المؤسسات الإعلامية عن بعد.2- مشكلة الحصول على المعلومات، فمن المنشأ توجد قواعد لتنظيم حرية تداول المعلومات وتحديد نطاق السرية التي قد تفرض على بعض المعلومات. ويكون حظر المعلومات في حدود معينة، تضيق ولا تتسع، نظراً لطبيعتها ويكون الحظر لفترة زمنية محددة وليس بصورة مطلقة. فالشفافية في نظم المعلومات هي الوسيلة الأهم في مكافحة حالات نشر أو إذاعة معلومات ناقصة أو مخالفة للحقيقة، وتضمن قوانين الدول الديموقراطية حماية الحقيقة ليس من خلال إنزال العقاب البدني بالأفراد، إنما من خلال فتح قنوات الحصول على المعلومات، وإتاحة قنوات إضافية تضمن حقوق الرد والتصحيح وطلب الاعتذار، وتصل إلى طلب التعويض في حال وجود ضرر مادي أو معنوي ترتب على الخطأ. 3- التذرع ببعض البلاد وبعض الحالات باعتبارات الحفاظ على الأمن القومي: فرغم القوة التي تتمتع بها وسائل الإعلام للعمل على تنمية الوعي الأمني، فإنها تبقى رهينة للمصادر التي تزودها بالمعلومات والتوضيحات والبيانات، والتي هي في الأغلب الأجهزة الأمنية التي تمتلك البيانات والمعلومات.وفي ظل العولمة الإعلامية وانتشار القنوات الفضائية الإذاعية والتلفزيونية وشبكات الإنترنت العربية، وغير العربية لم يعد بمقدور أي دولة التحكم بسياسة إعلامها الأمني، كما كان سابقاً، إلا من خلال وسائلها الإعلامية المملوكة لها فقط، والتي سوف يترتب عليها عدم مشاهدتها إلا في المناسبات الوطنية المهمة، لذا فالقيود الإعلامية أوشكت على التلاشي في ظل العولمة الكونية، وحل بدلاً عنها الانفتاح الإعلامي، وأصبح الحل الوحيد للحد من هذه المشكلة هو إيجاد قنوات فضائية حديثة ومتطورة بأجهزتها ومعداتها وآلياتها وكوادرها البشرية المؤهلة والمدربة، لكي تحاول منافسة القنوات الفضائية الأخرى، من خلال جذب أكبر عدد ممكن من المشاهدين، وبالتالي ضمان استمرار العمل الإعلامي قبل أن تصبح هذه القنوات مجرد تكملة عدد للقنوات الفضائية الأخرى.4- وجود قيود احتكارية، ترتبط بمصالح المالكين للهياكل الإعلامية، التي باتت أحد أبرز مكونات الممارسة الإعلامية، ومتطلبات التسويق الإعلاني هي من دون شك العنصر الأهم في رسم هوية البرامج التي تقدمها وسائل الإعلام، وهذان البعدان: المال والإيديولوجيا، يحدان في شتى أنحاء العالم من مساحة الحرية والديموقراطية في الإعلام المعاصر على حساب عاملين أساسين هما: حقوق المواطن المعاصر، وحرية الصحافيين. فالمجموعات الاحتكارية تتصرف بوجودها في شركات الإعلام على أنه أحد ميادين الاستثمار التي تتوقع منها كسواها مضاعفة أرباحها وعائداتها، كما أنها تستكمل عبرها دورة استثماراتها من خلال امتلاك أدوات التسويق والحماية المطلوبة لوجوه نشاطها الاقتصادي الأخرى ولشبكات الأمان السياسي التي تقيمها بتحالفات معلنة، وبفعل تلك الشراكة العضوية بين المال والسياسة، غالبا ما تتحول الملكية لوسائل الإعلام إلى أدوات تدخل وانحياز مباشرين.ويمكن القول إن لجم تفلت قوتي المال والإيديولوجيا لا يتحقق واقعيا بنسب معقولة إلا حيث تقوم أنظمة وتشريعات تعطي المرجعيات المستقلة الناظمة للإعلام سلطة عامة للتدخل ولحماية حقوق المجتمع وحريات الأفراد والجماعات، وهو ما تعكسه بعض وجوه التجربة الحية في فرنسا وبريطانيا إلى حد بعيد، بحيث يصبح الإعلام في النهاية صادراً من الناس وموجهاً إليهم، بدلا من أن يبقى بوقا في يد السلطان لتدخير الشعب أو تدجينه عبر نشر الأكاذيب والدعاية الرخيصة.* كاتب وباحث مصري